أواصل عملية الاقتباس من كتابي "أنا وهو وهم" بناء على رغبة عدد من الشباب اعترفوا لي بأنهم لم يستطيعوا اقتناء الكتاب، وآمل ألا أثير بذلك سخط عمُّنا مسعودي، ناشر الكتاب ومدير المؤسسة الجزائرية للفنون المطبعية. ولقد كان الحديث الأول للرئيس الشاذلي مع التلفزة الفرنسية واحدا من التحديات الكبرى، والتي أتحمل المسؤولية الكاملة عنها، وأنا أعرف أن صحفيين جزائريين لم يخفوا ضيقهم من ذلك، ولكنني كنت آمل أن يتفهم هؤلاء الموقف، وأن يدركوا أن الهدف الأول كان اختراق الساحة الدولية والفرنسية أولا، لمصلحة البلاد والرئيس في وقت واحد، ولم أكن مستعدا لإضاعة الوقت في المجاملات، رغم أنه كان هناك، عشية الانتخابات، حرصٌ على إعطاء سبق التصريح الصحفي لوكالة الأنباء وللتلفزة الجزائرية، كما أن الرئيس، بعد الانتخابات، توجه بكلمة شكر وتقدير للمواطنين عبر التلفزة الجزائرية. ومع أن بعض فرسان التعريب سلقوني بألسنة حداد، فإنني تحملت مسؤولياتي كاملة، وكنت أؤمن بأن نجاحا عبر قناة تلفزة أجنبية سيكون نجاحا مضاعفا، ولم أكن مسؤولا عن العقد النفسية التي تتحكم في الجنوب، وربما كان مما شجعني على اختيار المركب الصعب النجاح الذي حققه حديث الرئيس لصحيفة "لوموند"، والذي أعيد نشره بالطبع، مع تعليقات الصحفي الإيجابية، في الصحافة الوطنية باللغتين. وكان أمامي ثلاث طلبات استجواب، اخترت من بينها بمباركة الرئيس القناة الفرنسية الثالثة، لأنها تهتم بشؤون المهاجرين وتقدم لهم برنامجا أسبوعيا، وهكذا يتوجه لأبناء الوطن في الغربة عبر قناة تقدم لهم برنامجا خاصا، بعد أن توجه للمواطنين عبر التلفزة الوطنية. ولم يرهق البعض أنفسهم في دراسة خلفية الاختيار، وتزايد تنديد بعض من يُحسبون على قطاع الإعلام عندنا أو من يقدمون أنفسهم كذلك، ولم يدركوا أهمية استعمال نقطة الضعف التي حُسبت عليّ كمصدر قوة، فحقيقي أن القناة الفرنسية الثالثة هي أقل انتشارا، ولكن هذا على وجه التحديد هو نقطة الضعف التي رأيتها نقطة قوة في المساومة مع الصحفيين الفرنسيين، حيث لوحت لهم بطلبات قنوات أخرى، ومن بينها القناة الأولى (والتي لم أكن جادا في التعامل معها لأن الذي طلب إجراء الحديث باسمها لم يكن من العاملين الدائمين بها) وبالإضافة إلى بث اللقاء في أكثر من تلفزة فرانكوفونية في وقت واحد، من بينها بلجيكا وكندا، فقد كان يعطيني إمكانية الضغط على الصحفيين لانتزاع ما أريده، وهو ما تركز في نقاط لم أتزحزح عنها في نقاشات مطولة مع واحد من ألمع الصحفيين الفرنسيين وأكثرهم ذكاء، وهو جان ماري كافادا J.M.CAVADA، والذي استعملت معه منطق هاوٍ للتلفزة يتعامل مع حجة في هذا القطاع، وإلى الدرجة التي جعلت البعض يزعمون بأنني خدعته وحولته إلى دمية في أيدينا. وكانت أهم النقاط أن الرئيس سيتحدث بالعربية، وستترجم الإجابات فوريا للصحفيين، (وسيكون المترجم جزائريا وموجودا في صورة العملية كلها) ويتم التصوير بأجهزة تابعة للتلفزة الجزائرية وبإخراج جزائري، ولا تستعمل أي مساحيق على وجه الرئيس (وقد بالغت في التمسك بهذه القضية كتصلب تاكتيكي رغم أن الرئيس لم يطرحها أساسا لأنها كانت من تحصيل الحاصل). ولم تكن المساومة سهلة، وكنت أتصلب في نقاط معينة لأضمن تساهل الفرنسيين في نقاط أخرى، وكان للنقاش أهميته في كشف خلفيات معينة بالنسبة لبعض الأسئلة، وهكذا وجد الرئيس أمامه تصورا كاملا للعملية، بما في ذلك احتمالات الأسئلة المفاجئة. واختير للترجمة مدير الإذاعة الأخ محمد العيد بو رغدة الذي قام بالمهمة خير قيام ومن موقع غير بعيد أعدّ على شكل غرفة الترجمة الفورية، وتم وضعه في جو الأسئلة ومشاريع الأجوبة، وأعد مكانان متجاوران بجانب الرئيس مباشرة جلسنا فيهما، إسماعيل حمداني وأنا، ولكن بعيدا عن عين الكاميرا، لنكون بجانب الرئيس ولكن بدون أن نظهر للجمهور. وفي اليوم المعد للتسجيل كان كلٌّ في موقعه ينتظر نزول الرئيس إلى القاعة السفلية من مقر رئاسة الجمهورية، وذهبت إلى مكتبه لأراجع معه الرتوش الأخيرة على السيناريو، ولأقول له بأن كل شيئ جاهز في انتظاره، وإذا به يفاجئني بالقول بأن وزير الخارجية محمد الصديق بن يحيى ضد إجراء الحديث، بحجة أن إجراء أكثر من حديث مع مؤسسات إعلامية فرنسية في وقت واحد تقريبا فيه مبالغة، وبالتالي فإن من الخير أن يُترك الاستجواب مع التلفزة إلى توقيت آخر. وسألني الرئيس برقة: .."هل يقلقك أن نؤجل الحديث ؟ وأجبته بأن : "التأجيل ليس مشكلة، وسأتحمل أمام الصحفيين مسؤوليته، ولكن المشكل أنه لا بد من أن يُدلي الرئيس بحديث تيليفيزيوني مُطوّل في وقت ما، وأنا أعتقد أن الظروف اليوم مواتية لذلك، بل وتفرض أن نسرع بالإنجاز حيث من المحتمل ألا تتوفر نفس الظروف في المستقبل القريب". وطلب الرئيس مهلة للتفكير، فخرجت من مكتبه إلى غرفة مدير التشريفات الأخ مولود حمروش حيث وجدت هناك بن يحيى، وقلت له مباشرة بأنني "لا أجد سببا مقنعا لتأجيل الحديث، وأنني أفهم مخاوفه جيدا (وأعتقد أنه، بذكائه المعروف، فهم تماما ما أعنيه) ولكنني أسيطر على العملية جيدا، وعملية التسجيل تتم تحت رقابتي المطلقة، ومن السهل، عند الضرورة، الادعاء بتلف التسجيل". ودق جرس الهاتف، وكان المتحدث هو الرئيس الذي طلب وزير الخارجية، واتجه بن يحيى نحو باب الخروج وهو يقول لي بهدوء .."أنت تجازف مجازفة كبيرة، وتلعب برأسك..أنصحك..فكر ثانية"، وأجبته وهو يجتاز الباب بأنني "أشكره ولكنني أعرف جيدا ماذا أفعل". واستدعاني الرئيس ثانية بعد أن خرج الوزير من عنده، وسألني بهدوء .."..ماذا قررت ؟" وقلت له وأنا أبذل جهدا كبيرا لأسيطر على قلقي : " القرار هو قرارك، ولكنني أرى أن نستكمل عملنا"، وأجابني بقوة وثقة رفعت من معنوياتي : "هيا ... بسم الله"، فاصطحبته إلى مكان التسجيل وأنا أتحكم في توتري وقدمت له الصحفيين، ثم جلس في صدر القاعة وعلى يمينه كافادا ومساعداه، وجلست أنا وحمداني في المكان المُحدد. وبدأ التسجيل، وكنت أحس بأن ضربات قلبي تتسارع وتعلو، بحيث كدت أتصور أن صوتها سيطغى على صوت الحوار الدائر بين الرئيس والصحفيين. وكان الرئيس رائعا في استيعابه لكل النقاط، وكان السؤال يطرح بالفرنسية وبمجرد انتهائه يجيب الرئيس بالعربية، ويتابع الصحفيون الإجابة بالفرنسية عبر سماعة الإذن المعدة لذلك. ورافقت الرئيس إلى مكتبه ولم أتمالك نفسي فاندفعت نحوه بمجرد جلوسه على الأريكة لأقبله، ولعله فوجئ، ولكنه تساءل مبتسما.."مرت الأمور كما تريد" .. وقلت .."بل خيرا مما كنت أريد". وكانت الساعة تقترب من وقت الغداء، فعدت لقاعة التسجيل لأعرض على "كافادا" التوجه إلى الفندق للراحة، على أن نلتقي في حدود السادسة مساء في دار التلفزة لنفحص التسجيل. وبمجرد خروجه وزميليه أسرعت وحدي إلى الأستوديو في شارع الشهداء حيث راجعت التسجيل في نحو ساعتين ونصف، وقمت بإعداد نسخة جديدة حذفت منها ما لم يُرضني، وساعدني على إخفاء عملية المونتاج اتفاقي المسبق مع الفنيين على طريقة التصوير، بحيث لا يبدو أي حذف لأي جملة أو صورة. ثم عدت مرة أخرى للتلفزة فبل السادسة لاستقبال الصحفيين الفرنسيين، واطلعت معهم للمرة الأولى، رسميا، على التسجيل، وأعطيت موافقتي عليه بتحفظ، موجها اللوم علنا للتقنيين الجزائريين على بعض الهنات، التي قلت أنني أجد نفسي مضطرا لقبولها حتى لا يفقد التسجيل صدقيته. وكان كافادا يُتابعني بنظراته وهو لا يعرف هل أنا ممثل ناجح أو مسؤول خائف. وأعلنت التلفزة الفرنسية عن إجراء الحديث مع الرئيس الجزائري وعن اعتزامها بثه في نهاية الأسبوع، وقامت ضجة في الأوساط اليمينية بفرنسا، كانت في حد ذاتها أحسن دعاية للعملية كلها. وتعمدتُ أن تبث التلفزة الجزائرية نفس النسخة الفرنسية للحديث، بالمقدمة التي تحمل شعار القناة الفرنسية الثالثة، والتي رفضتُ، بتواضع كاذب، أن تكتب فيها أسماء الفنيين الجزائريين من مصورين وتقنيين، ضمانا لمصداقية العمل كله، وهو ما تقبله التقنيون الجزائريون بتفهم رائع. وبالطبع كانت هناك الترجمة الفرنسية أسفل الشريط، والتي كانت فرصة لبعض المتشدقين لكي يعيبوا عليّ عدم بث النسخة الجزائرية للحديث، بدلا من بث النسخة الفرنسية، وبالطبع فقد تركتهم يقولون ما يريدون قوله بدون تعليق، وربما كنت أتلذذ بغبائهم، لأنهم لم يدركوا، وهم يدعون الخبرة الإعلامية، أن النقائص التي يشيرون لها كلها كانت ضرورية لتحقيق المصداقية، ولأنهم تصوروا أنني لم أفهم أن مواقفهم السلبية كانت تعبيرا عن خيبة أملهم، نتيجة لنجاح العملية، وهو آخر ما كانوا يرجونه لها. ............... والواقع أن الاستجواب حقق نجاحا فاق ما كنت أتوقعه، وكان ذلك أساسا بفضل الرئيس الشاذلي الذي استوعب معطيات العملية كلها، ولم يخضع لعمليات التعقيد التي حاول البعض أن يختلقها، ولقد سمعت من قال بأن الاستجواب كان استفتاء ثانيا حقق فيه الرئيس اختراقا منقطع النظير على المستوى الوطني والدولي. ولعلي أنتهز الفرصة هنا لأسجل مرة ثانية تقديري للأخوة إسماعيل حمداني ومحمد العيد بو رغدة ورجال التلفزة الوطنية الذين كان لهم، بعد المولى عز وجل والرئيس نفسه، الفضل الرئيسي في النجاح. وسوف أتوقف عن استغلال صبر مسعودي، وعلى الراغب في الاستزادة أن يقتني الكتاب