الأمل هو ذلك الماء الزّلال الذي يسقي نفوسنا العطشى في زمن الأزمات.. فحين يظهر الأفقُ موشّحا بالسواد الحالك، وحين يبدو النفقُ طويلا كأنه بلا نهاية؛ يبرز شعاع الأمل، فيسكب الطمأنينة على النفوس، ويوجّه العقول نحو التفكير في الحل بدل المشكلة والتطلع إلى المستقبل بدل الانقياد المطلق إلى الحاضر. لنترك الحديث مؤقتا عن الأمل ونقرأ باختصار شديد عمودا صحفيا لأحد الزملاء المحترمين بإحدى يومياتنا الوطنية، وفحوى ذلك العمود هو التساؤل عن الحاكم الفعلي للجزائر بعد أن أورد الكاتب رقما "مخيفا" للأموال العربية المرصودة للاستثمار في الجزائر والتي تصل إلى خمسين مليار دولار.. غير أن القاطرة التي تحمل تلك الأموال، حسب الكاتب، قد اصطدمت بحاجز ما.. لا ندري هل هو مزيف أو حقيقي.. وهو البيروقراطية. ويستطرد الكاتب فيكشف عن أن بعض هؤلاء المستثمرين العرب "على علاقات شخصية برئيس الجمهورية ومدعومين منه شخصيا".. ومع ذلك لم تشفع لهم تلك العلاقة المميزة ولم تفتح أمامهم الأبواب المغلقة وتمهد أمامهم الطرقات والمسالك الوعرة. ويصل الكاتب في النهاية إلى أن منع هذه المبالغ من الدخول والاستثمار هو جريمة.. ثم يتساءل عن الذي يستطيع محاكمة المجرم الذي يقف وراء هذه الجريمة، ويطرح السؤال على عدة جهات رسمية.. لكنه يختم قوله: "نقول هذا الكلام بالرغم من أنه لا شيء في الأفق يوحي بإمكانية مواجهة المجرم". أوجه أولا تحية حارة إلى الزميل الكاتب على تلك الشجاعة التي جعلته يتحدث عن "مجرم خطير" وقوي بالقدر الذي يستطيع معه الوقوف أمام رئيس البلاد المنتخب، دون أن يعني ذلك بطبيعة الحال أنني أوافقه تمام الموافقة على وجود وطبيعة ذلك المجرم، أو أن وجهات نظرنا متطابقة تماما، على حد تعبير بيانات اللقاءات والقمم والزيارات الرسمية، لأن مثل هذه الأمور، في تقديري، تظل "ظنية الثبوت وظنية الدلالة" في الوقت ذاته حتى يأتي الدليل القاطع البيّن الذي يثبت العكس، أو هذا ما يبدو لي ولمن هم في حالتي "المعلوماتية" على الأقل. وأنبّه ثانيا إلى أن وجود سلطة موازية، سواء كانت سلطة مال وأعمال أو بيروقراطية متحكمة، هو أمر لا يمكن إنكاره في كثير من بلاد العالم الثالث الذي ننتمي إليه، لكن التمادي في التشهير بمثل هذه السلطات وتضخيم عدد أياديها الطويلة التي تصل إلى ما تريد، قد يخدم تلك السلطات المفترضة أكثر مما يضرها، خاصة عندما تكون خاتمة الكلام تشاؤما مطلقا ونفقا مظلما لا يبدو في نهايته أي نور ولو كان خافتا، ولا يحدد أي سقف زمني لإمكانية الإصلاح والتمرد على مثل تلك السلطات.. ليس بالشهور أو السنوات، بل وحتى بالعقود والقرون.. وهو ما يعني أن وبال ومصائب الوضع القائم ستصل إلى أحفاد أحفادنا، وليس إلى أبنائنا فقط. الموقع الذي يجب أن نختاره دائما هو الوسط ف "خير الأمور أوسطها"، وينبغي الحذر من الضياع والتيه في مجاهل التهوين أو ظلمات التهويل، فكلاهما مهلك للحرث والنسل ومُغلِقٌ بالشمع الأحمر للذاكرة الجمعية الإيجابية، ومدعاةٌ ليأس مطلق مدمر أو نوم وغفلة بائسة.. فالبلاد ليست على طريق الدمار والهلاك تماما، وليست مثالية في كل الجوانب أيضا. نعم هناك صراع كما هو الحال في دول أخرى مشابهة حيث الحرب الباردة الخفية وحتى العلنية بين صناع السياسة النظيفة وصناع تلك السياسة التي يوجهها المال ويتحكم في مساراتها القريبة والبعيدة... التدافع موجود ومعروف لكن الأمر أقل وأهون من تصوير البلاد على أنها مرهونة لعصابة قلّ عددها أو كثُر.. وعندما نفعل ذلك فإننا نتجاهل تلقائيا العدد الكبير من أصحاب الأيادي النظيفة والقلوب العفيفة والوطنية الصادقة، وندفع الشباب بالتالي إلى المزيد من عمليات الانتحار في ظلمات البحر على تلك القوارب المتهالكة في الليالي الظلماء الحالكة. إن حجم التحديات كبير والعقبات التي تقف في وجه الانطلاقة الصحيحة القوية لبلادنا كبيرة وعديدة، وما ينبغي التأكيد عليه هو الحذر من دعم تلك التحديات وزيادة عدد العقبات عبر التشاؤم والسوداوية المطلقة والنظر ب "عين السخط" لكل شيء بيننا وحولنا. إن تلك النظرة المتشائمة تسيطر على الكثيرين.. مسؤولين ومواطنين ونخب سياسية وفكرية وثقافية، ويصل البعض في تشاؤمه إلى حد التطرف.. ومع أن التطرف لا يقابل بتطرف مماثل، فسأسمح لنفسي بدعوة نفسي أولا وغيري ثانيا إلى التطرّف.. التطرف في التفاؤل والنظرة المستبشرة المليئة بكل الصور الوردية الجميلة البرّاقة لمستقبل بلادنا. تطرف في التفاؤل.. لكن مع دعوة مماثلة إلى تطرف أيضا في الجد والاجتهاد والإتقان والتفاني.. تطرف يدعونا إلى أن نكون أول المستقيمين وأول المطبّقين للقانون وأول المضحين من أجل المصلحة العامة وأول وأول... وباختصار: نكون نحن التغيير الذي نريد أن نراه في بلادنا، كما كان المهاتما غاندي يقول: "كن أنت التغيير الذي تريد أن تراه في هذا العالم".