يتفق الجميع على أن الجزائر قطب سياحي من الدرجة الأولى، كما يتفق الجميع أيضا على أن الجزائر لم تعمل كبير شيء، لاستثمار ما جادت به الطبيعة، من شأنه أن يستقطب السائحين.. رغم أنها تمتلك ثروات سياحية طبيعية وتاريخية متنوعة في الشمال كما في الجنوب، إلا أن غياب سياسة استثمارية فعالة، حال دون ترقية هذا القطاع الهام الذي يستطيع أن يكون موردا للمداخيل يضاهي مداخيل الغاز والبترول، وانطلاقا من هذه الحقيقة، فالتوجه المستقبلي، قصد جلب مداخيل إضافية للدولة، وتوفير مناصب شعل تمتص نسبة من البطالة المتفشية في الأوساط الشبانية، يجب أن ينحو في اتجاه الاستثمار الجادّ في قطاع السياحة.. أقول الاستثمار الجاد لأن ما هو موجود كقطاع عام طالته خيوط العنكبوت، وما يتم عن طريق القطاع الخاص، لا يعدو أن يكون "بريكولاجا" لا يراد منه سوى تحقيق أرباح سريعة باقل التكاليف، وبأدنى الإمكانيات. وللوقوف على هذا الأمر، ركزت اهتمامي على جانب هام من جوانب السياحة الذي يستهوي الجزائريين، ألا وهو جانب السياحة الحموية، أو السياحة التي يتوخى من ورائها العلاج، وهذا النوع من السياحة العلاجية يستقطب شرائح كبيرة من المواطنين على اختلاف أجناسهم وأعمارهم وحالاتهم الصحية، ومستوياتهم الاجتماعية. الجزائر أرض الحمامات الطبيعية حتى لا يكون كلامي عبارة عن أحكام مسبقة، لا تستند لدلائل مادية، قمت بجولة كسائح، زرت خلالها ثلاثة حمامات في شرق البلاد، حمام قرقور والسخنة بولاية سطيف، حملم الصالحين بولاية خنشلة. وقبل تسطير ما عايشت ولاحظت، أثناء جولتي الاستجمامية، لابد من الإشارة إلى أن بلادنا الجزائر تزخر بحمامات معدنية عديدة تتركز عموما في شريط الهضاب العليا، انطلاقا من مغنية مرورا بسعيدة والبليدة والبويرة والبرج وسطيف إلى خنشلة وڤالمة، ما يدعونا للقول بأن تواجد هذا العدد الكبير من الحمامات الطبيعية بهذا الشريط، يعود ربما إلى كون المنطقة زلزالية بركانية، كما تشهد على ذلك مختلف الهزات التي عرفتها البلاد في المدة الأخيرة على طول خط الهضاب العليا. والجدير بالذكر ان الجزائريين مولعون بالسياحة الحموية، حيث يقصدون الحمامات بغرض العلاج من الأمراض المستعصية كداء المفاصل والروماتيزم، وفي الأعوام الأخيرة، بعدما توفرت إلى حد ما، بعض ظروف الراحة والاستراحة، صار البعض يتخذون الحمامات مقاصد بحثا عن الراحة النفسية، واسترجاع الطاقة والحيوية، الشيء الذي يخلق حركية اقتصادية وثقافية وتجارية وترفيهية، يضيف مسحة فنية للجمال الطبيعي الذي تمنجه الطبيعة وبيئة الحمامات بكل سخاء. حمام ڤرڤور.. في ضيافة "سيدي الجودي" حمام ڤرڤور كان محطتنا الأولى، كانت الساعة الثانية بعد الظهر عندما انطلقنا شرقا، أنا وصديقي إبراهيم، وما هي إلا ساعة تقريبا حتى باشرنا الطريق السيار التي تبدا من "الأخضرية"، هي متعة أخرى أن تسير في طريق لا تسمع فيها من الأصوات غير صوت اختراق الهواء.. تحسب نفسك على متن طائرة.. تحلق في سماء اللامعقول.. لا تصدق أن في بلادنا طريقا تسير فيها دون أن "تمخض" مصارينك و مصارين سيارتك، وفي لحظة من اللحظات، يخالجك شعور بالاعتزاز، وتنزل عليك قطرة باردة من أمل في مستقبل مشرق.. تتمنى لو يتحقق بضربة عصا سحرية. وما هي إلا ساعة أخرى حتى بدت لنا مدينة "البرج"، حيث علينا أن نخرج من الطريق السيار لنسلك طريق أخرىيسارا نحو الشمال، توصلنا إلى "بوڤاعة"، مضت ساعة أخرى في طريق ملتوية متصاعدة قطعنا مدينة "خليل"، ثم بعد الصعود جاء الهبوط، تمضي في الهبوط لتقطع بوقاعة، وتستمر في الهبوط إلى الوادي"بوسلام"، حيث تقبع قرية "ڤرڤور" الصغيرة، التي يوجد فيها الحمام، بمحاذاة الوادي. وهذا الموقع يعرف بحمام “سيدي الجودي”، الذي حسب ما أفادنا به أحد السكان كان رجلا ورعا وتقيا ومفسرا للقرآن ومنتميا لأخوان المرابطين الذين جاءوا لتعليم مبادئ القرآن الكريم في مسجد صغير بنوه في القرن العاشر الهجري غير بعيد عن مدينة حمام «ڤرڤور». وكرس الولي الصالح حياته للدين وللأعمال الخيرية، وتسود اعتقاد في المنطقة أن الرجل حينما أصبح الماء نادرا وبدأ تلاميذه يشتكون من العطش بسبب ترتيلهم آيات القرآن الكريم ضرب بعصاه الأرض فانبعث الماء من هذا المنبع. أما بخصوص ماء الحمام، يقال بأن لها فعالية كبيرة كونها تتميز بنشاط شعاعي. وكان الرومان عبر التاريخ أول من بنى أحواضا لهذه المياه الحموية، بالقرب من مضايق «وادي بوسالم» وسط إطار طبيعي خلاب يقع بين جبال «البابور» وجبال «البيبان». وعن الحيوية التي أضفاها عهلى المنطقة، قال أحد السكان الذين التقينا بهم، و هو يمارس تجارة الأواني، قال: "إن منبع «حمام ڤرڤور» ساعد كثيرا على بروز نشاط سياحي " و أضاف بخصوص الحس المدني: "إن الحديث ذو شجون بشأن “الحس المدني” الذي يفترض أن يتحلى به الجميع، خاصة أن الحمام يعد قبلة مفضلة لكثير من العائلات لقبلات الباحثة عن العلاج الحموي، أو التي تبحث عن قضاء الراحة بعيدا عن أجواء ضوضاء المدينة. وبمجرد أن رتبنا أمورنا بفندق "جرجرة" أين حجزنا غرفتين، قصدنا الحمام مباشرة، فوق المدخل تستقبلك لافتة "حمام سيدي الجودي"، وهو ولي صالح أقام مدرسته (مسجد) هناك ودفن فيها كما قيل لنا. والوصول إلى الحمام لا يستلزم أن تسأل عنه، يكفي أن تتابع حركة الغادين والرائحين بفوطاتهم الملمفوفة حول رؤوسهم لتقودك إلى الحمام. يقع الحمام على بعد أمتار من وادي "بوسلام"، مقابل الحمام القديم المغلق بعدما صار لا يلبي الطلب المتزايد للزوار. يتكون من عدة عرف، في كل غرفة حوض يتدفق فيه الماء الساخن و مشاجب لتعليق الملابس، لاحظنا في الوهلة الأولى بأن كمية الماء المتدفق ضعيفة، فقيل لنا أن نسبة من الماء تحول في مثل ذلك الوقت من المساء، عن طريق محركات إلى المركب السياحي المتواجد في هضبة بعيدا عن الحمام القديم بحوالي 300متر تقريبا، لأغراض استعمالات المركب. عندما دخلنا الحمام، كان أول ما اقتحم أنوفنا عنوة، رائحة الكبريت الممزوجة برائحة قوية وكريهة صادرة من المراحيض، ولما فتحنا باب أول غرفة من عرف الحمام، صدمنا بمنظر اشمأزت له نفوسنا، وأبت أنوفنا تحمل رائحة الأدران الزاكمة، كان هناك بعض المستحمين، "يقشرون" جلودهم بكاسات بجانب حوض الماء الساخن، ودخلنا غرفة اخرىن و ووجدنا نفس المنظرن وكذلك في غرفة ثالثة، عدنا إلى الغرفة الأولى، لأن عدد الأشخاص أقل عددا، فاتخذنا مكاننا على حافة الحوض الممتلئ نصفه، و رحنا نفتح حديثا عن النظافة، حتى فهم المعنيون بالحديث أنهم المقصودون فخرجوا، ثم أفرعنا الحوض لنعيد ملءه من جديد بعد نظفناه والغرفة، وراح آخر يعيد الكرةن فنهيناه، فخرج غير راض، بعد أن تهاطلت عليه الملاحظات من جهة. كانت مياه الحمام ساخنة تبلغ حوالي 45 درجة مئوية، ولكن الجلد يتحملها، ما إن يألفها الجسم حتى تشعر بدفء وحنان يسري في أوصالك، غير أن البقاء فيها أكثر من ربع ساعة قد يسبب لك الإغماء، لذلك ترى بعض المسنين في خروج و دخول. سالت أحدهم كان يفرك ساقيه بلطف وهما داخل الماء، يبدو من تجاعيد وجهه وترهل جلده، يتعدى السبعين، وقلت له: أهذه أول مرة تزور الحمام؟ فقال: لا، كلما شعرت بألم في ركبتي، أجد راحة كبيرة في هذا الماء. وعند خروجنا من الحمام مباشرة، تقدم نحونا رجل باحتشام، وعرض علينا كراء غرف للمبيت ب 600 دج، لليلة، في بيت قرب الحمام، فاعتذرنا، كوننا حجزنا مسبقا في فندق صعير، "فندق جرجرة" ليس بعيدا عن الحمام، يقدم أدنى شروط الإقامة اللائقة، ولأن صاحبه شاب طموح، لم يجد حرجا فيما قدمنا له من ملاحظات و اقتراحات لتحسين ظروف الإقامة. بعد أن تجولنا في "الشارع" الذي تتزاحم فيه المعروضات من الألبسة والأواني، مع روائح الدجاج المشوي لجلب الزبائن، وقفنا عند محل استرحنا له، ودخلنا وتطعمنا بما كتب الله، ودفعنا ثمن ما أكلنا بسعر لا يختلف عن السعر المطبق في المدن الكبرى، أما الخدمة، فهي على قدر الحال، فلا تنتظر أن تعامل بما يعرف عن الجزائري، وعليك أن ترضى بما يقدم لك، وإن كان التجار يجتهدون ما استطاعوا في تقديم أفضل ما عندهم من جميل الكلام، لصانعي ثروتهم أي الزبائن. قضينا الليلة في دفء الطبيعة و استفقنا على أصوات المحركات وزقزقة العصافير، لم يستغرق نومنا أكثر من أربع ساعات، إلا أننا "شبعنا نوما"، فمنذ الساعات الأولى من النهار تبدأ الحركة بهذه القرية، و لا تنتهي إلا في ساعة متأخرة من الليل، حتى لا تكاد تشعر بالفرق بين الليل والنهار، لولا المحلات التجارية التي تفتح أبوابها متأخرة. وقبل مغادرة الحمام، نزلنا إلى الوادي حيث عنصر يتفجر منه ماء زلال قيل إنه مفيد لتصفية الكلى، تزودنا منه و شربنا حتى ارتوينا، ثم قصدنا المركب السياحي الذي يقدم خدمات علاجية بماء الحمام، غير أن الأسعار المعروضة ليست دائما في متناول العامة من الناس، تجولنا في أروقة فندق المركب، ولاحظنا أن القطاع العام لا يختلف في كثير عن القطاع الخاص من حيث الأسعار المطبقة التي لا تعكس مستوى الخدمات المقدمة.. لنا عودة في الجزء المقبل.