يأخذ علينا الصهاينة والأميركيون ومن يواليهم ويمثّلهم وينطق باسمهم في فضائيات وصحف عربية، مسموعة مرئية، ومسموعة، ومقروءة، ما يصفونه ب "تمجيد الموت"، أي الإشادة بشهداء الأمة والمقاومة والمجاهدين والمبدئيين، ونصرتهم ورفعهم رموزاً وطنية وقدوة اجتماعية، وإعلاء صوت من يقتلهم المحتل الصهيوني والأميركي في بيوتهم وحقولهم من العرب وتقيدمهم للناس بوصفهم شهداء. ويعتمد أولئك منهجاً يماهي بين المقاومة المشروعة والإرهاب المدان، ولا يميز بين الضحية والجلاد، المعتدي والمعتدى عليه، ولا بين من يستخدم الطائرة والدبابة والجيوش المسلحة في احتلاله وعدوانه على المدنيين، وبين المدنيين الذين يتعرضون للإبادة فيدافعون عن بيوتهم وأطفالهم وكرامتهم بأجسادهم ودمائهم.. حيث يسجل من يفعل ذلك "منتحراً" وإرهابياً ومن يلاحقه حتى الانتحار جيشاً " أخلاقياً" يخوض حرباً تتيح له القتل ولا يسأل عما يفعل؟ ويتم ذلك في عملية خلط للأوراق والأحكام والمواقف، وتشويه للحقائق والوقائع والمعايير، وتضليل كثيف للناس.. عملية تهدف إلى تسميم فكر الأمة العربية وذاكرتها والقضاء على ثقافة المقاومة ومفاهيم الانتماء ومسؤولياته، وعلى الروح الوطنية والقومية ومعاني البطولة والفداء، كما تهدف إلى تشويه الصورة والقضية والنضال والقيم والمفاهيم والمصطلحات والمعايير، وتوسيع دائرة الإحباط الفردي والجماعي، وشل إرادة الأمة في الدفاع عن نفسها وهويتها ومصالحها وتحرير أرضها. وأولئك الموالون المموَّلون الموظَّفون لهذه الغاية، يتنافسون في الأداء لكسب ثقة العدو المحتل، صاحب الأمر والنهي مثل أحصنة سباق في ميدان، ويسكتون على جرائمه، وينفّذون برامجه فيما يسميه "حرب الأفكار" وينغرسون حراباً في خواصرنا وسموماً في بيئتنا الثقافية والاجتماعية والسياسية، يستهدفون قوميتنا وديننا وقيمنا، ولا يوفرون جهداً في تخريب مجتمعاتنا وشبابنا على الخصوص، ولا في تشويه كل نظيف وشريف ومبدئي وخلقي في حياتنا وتاريخنا ونضالنا. وقد وصل تأثير هذا المخطط إلى شرائح اجتماعية واسعة في وطننا من خلال ثقافة وإعلام وسياسة، وأخذ يرسّخ مفاهيم غريبة مريبة في الأوساط الثقافية والسياسية والاجتماعية، وفي أوساط إعلامية عربية على وجه الخصوص، حيث أعطيت تلك المعايير صفة مهنية عالية واقتحمت حيز المعيار المهني السليم، واعتمدت في وسائل إعلام عربية بوصفها مناهج ومميزات وخصوصيات، وهي في هذا المعترك "كلمة حق" ربما لم تتنبه أوساط ووسائل إعلامية لما أريد بها من باطل، أو ما جرّت إليه من مواقف تخدم الباطل.. الأمر الذي أدى عملياً إلى نفاذ الباطل وبطلان الحق.. من هذه النافذة.. وما قصدت إليه هو تبني " الحياد الموضوعي" من بعض وسائل إعلام مؤثرة في معركة الأمة مع الاحتلال والعدوان والعنصرية الصهيونية. إن الحياد والموضوعية وحيوية الضمير والجانب الأخلاقي الرفيع، عند الإعلامي الذي يستحق اسمه وموقعه، صفاتٌ عالية تحكُم المهنية والتقنية الرفيعة والتمكّن من الأدوات وسعة رقعة المعارف والاتصالات والنشاط العام وسرعة الحركة والصبر التي تلازم مهنة الإعلامي وتشكل نسيجها ومن ثم الأداء بمجمله.. ولكن هذه الصفات كلها ومآل الحركة العامة وهدفها هو خدمة الحقيقة أولاً وآخراً، ولا يلغي الانتماء الوطني والقومي والثقافي والاجتماعي والعقائدي، ولا المعيار الإنساني العام، ولا الموقف الإيجابي من الحقيقة في أي موقع كانت، ولا ينبغي أن تعتم على العدوان والجريمة والإرهاب والاحتلال والظلم والقهر والفساد ومن يمارسه أياً كان، ولا تساوي بين من يفعل ذلك ومن يتصدى له بالوسائل المختلفة ومنها المقاومة المشروعة المستندة إلى حق ووعي بالحق. إن الإعلامي ليس مسؤولاً وحده عن هذه الجبهة التي هو عامل فيها أو مراقب متابع لها، وهي جبهة يعمل فيها مثقفون ومناضلون ونشطاء مستقلون في مجالات حقوق الإنسان والدفاع عن الحريات والقوانين والقيم والمعتقدات والثقافات والخصوصيات الاجتماعية التي تؤسس في النتيجة لغنى الحضارة الإنسانية عبر تنوعها وتعدد روافدها.. ولكنه يملك، بحكم عمله في هذا العصر، مفاتيح إيصال الصوت والصورة والخبر والمعلومة، ليتمكن المعني والمستهدَف والداعي والمنتمي من إيقاظ النيام ولفت نظر الغافلين من الناس إلى ما يجري في هذا الموقع البشري أو ذاك، فيحرضهم على القيام بفعل عادل محرِّر منقذ. وفي الأغلب الأعم من الحوادث الجسام والحروب والصراعات والقضايا السياسية والمشكلات الاقتصادية والاجتماعية، لم يكن الإعلام محايداً ولا موضوعياً بالمعنى الدقيق ولا أقول المطلق، ولا خادماً للحقيقة متعلقاً بها بإخلاص مرْضٍ، والإعلام الأميركي البريطاني الصهيوني مثلاً، أو الإعلام الغربي بصورة عامة لم يكن محايداً ولا موضوعياً في أثناء العدوان الأميركي السافر على العراق بل كان منتميا لجغرافية وسياسة وثقافة وأيديولوجيا خارجة على القوانين والأخلاق والقيم والمؤسسات الدولية.. ويتجلى هذا بصورة أوضح وحدة أكبر فيما لمسناه وتابعناه وما نتابعه ونلمسه من نشاط متعدد المجالات والأساليب والوسائط والأدوات في أنحاء مختلفة من العالم، إنه إعلام منتمٍ ومنحاز، إعلام متعدد المكاييل والمعايير والوجوه والألسنة والأقنعة أحياناً، إعلام موظف بصورة خفية أو شافة، ويكيل بالمعيار الذي يوكل إليه الكيل به في أحيان أخرى، ويشاركه إعلام تابع أو مناصر يلغي صفاته الشريفة أو يعرِضها في السوق في كثير من الأحايين، فيأتيه المشترون عبر بوابة الإعلان التي تعارف على أنها بوابة مموهة بدقة وإحكام لتسديد فواتير وأثمان مواقف. وهذا الواقع المعيش يفرض علينا أن نقارب حالة أو ادعاء أو دعوة في بعض مواقع إعلامنا العربي النافذة تقول إنها "محايدة وموضوعية تماماً" وغير منتمية لأن هذا النوع من الانتماء مقتل كما يقول بعض أعلام الإعلام.؟ إنها تبحث عن الخبر بوصفه جوهر عمل الإعلام الناجح المتميز، ولا تقوم بالدعاية " البروباغندة" التي يقع فيها أو يسبح في بحرها إعلام كثير.. والفرق بين الخبر والدعاية، كما حدده أو عرّفه إعلاميون في مواقع إعلامية مؤثرة، هو الآتي: " الخبر ما يكشفه الإعلام ويعلنه مما يريد صاحبه إخفاءه، والدعاية " البروباغندة" ما يرغب صاحبه في نشره وتستجيب له الوسيلة الإعلامية بهذه الصورة أو تلك"، وبناء على هذا التعريف أو التحديد للمفهوم نجد أن إعلامنا العربي، أو الإعلام بصورة عامة، يكاد يغرق حتى "شوشته" في الدعاية ولا تكاد تقف فيه على الخبر بالمعنى الذي حدده المفهوم السابق، إلا قليلا.! نعود إلى الحياد في بعض وسائل الإعلام العربي التي تعمل في وسط وزمن يسود فيهما منطق القوة والعدوان والاحتلال والقهر والكيل بعدد من المكاييل لقضية عادلة واحدة مثل قضية فلسطين مثلاً.. فكيف يكون الإعلام محايداً في هذه القضايا والمواضيع والمواقف ولماذا، وأخذاً بأية قدوة في الميدان العملي وليس في التفكير المثالي أو الطوباوي؟ وهل هذا النوع من الإعلام العربي هو إعلام لا ينتمي للأمة أو لا تعنيه مواصفات المهنة أو لا يكترث بالحقيقة؟ أم أنه غرق وأغرق في مستنقع " حرب الأفكار" بصورة غير مباشرة أو غير واعية وسار في ظلمة، ومن ثم أدرك ورفض أن يكون ضمنها، ولكي لا يُحسب عليه أنه ضدها أخذ موقفاً محايداً منها ومن أمته، وترك تلك الحرب تتمدد من دون ردع أو استنهاض همم مضادة لها؟ أياً كان السبب وراء هذا الاختيار المعلن: أي " الحياد" أو "الحياد الموضوعي" في وطن محتل معتدى عليه، وأمة وعقيدة تعانيان من الاستهداف الشامل المعلن، وحقيقة يعتّم على معطياتها وقيمها ومقوماتها أو تشوه وتزوَّر، فإنه يمس دائرة الانتماء الوطني والقومي والاجتماعي والأخلاقي والروحي والإنساني، ويضعِف المواقف والمواقع الخلقية والمهنية وصفوف الدفاع عن الحقيقة والعدالة والحرية والقيم. إن برنامج إعلام الحرب و"حرب الأفكار" الأميركي الصهيوني نجح في تحييد من لم يستطع توظيفهم في حملته وضمهم إلى صفوفه، ومن ثم أضعف بتحييدهم الجبهة العربية الإسلامية المستهدَََفة بصورة من الصور، لأن المنافسين المحتملين لسياسته وأدواته ولوسائل الإعلام الناطقة باسمه أو الموالية له خرجوا من المعركة أو أخرجوا منها بالحياد، وطلبوا السلامة، وشربوا حتى الثمالة من كأس مسمومة المحتوى، الأمر الذي جعلهم يقفون بصورة غير مباشرة، ومن حيث لم يرغبوا، مع العدوان والاحتلال والقتل والقرصنة وإرهاب الدولة لأنهم ساووا بينه وبين الدفاع المشروع عن النفس والحق، وسكتوا عن إرهاب الدولة وتكلموا عن إرهاب خلطوه بالمقاومة أو مقاومة خلطوها بالإرهاب، في أثناء معركة عادلة تخوضها أمتهم ضد عدوها في أرضها.. حيث ابتلعوا ألسنتهم ووقفوا على الحياد يتباهون بما وضعوه هم على رؤوسهم من أكاليل "الموضوعية"، في حين أنهم تخلوا عملياً عن معركة من أجل الحقيقة والموضوعية.. إن بعضهم يحارب على نحو ما مع العدو بانحياز خفي، لأنه تخلى عن المعتدى عليه والمحتلة أرضه والمعرَّض للقتل وسلب الحق والمصالح وتشويه الهوية والوجود والنضال، وأدانه أو سكت على إدانته في معركة غير متكافئة يخوضها بلحمه ووسائله البسيطة ضد جبروت القوة والعدوان والاحتلال والعنصرية والظلم والقهر. صحيح أن أولئك لا يتساوون في الموقف مع من يخوض المعركة بوعي واختيار إلى جانب العدو ولكنهم في درك ما هو أقل من الدرك الذي بلغه من يخوضون معركة العدو بين ظهرانينا، مأجورين أو مأمورين أو مختارين.. إنهم في النتيجة لم يكونوا مع أمتهم في المحنة وربما لا يفلحون في التصالح مع أنفسهم بصورة مرضية لها ولهم، في الامتحان الداخلي حينما يعرضون مواقفهم وخياراتهم على حكم داخلي عادل وحكيم وأبي.