لقد تجاوزت مأساة الفلسطينيين المحاصرين في غزة كل حدود الاحتمال والسكوت والصبر، وطال مداها إلى الحد الذي يستوجب طرح أسئلة على العالم ومؤسساته ودوله وشعوبه تتصل بإنسانيتهم وأخلاقهم وقيمهم ومعتقداتهم: هل يقبلون إعدام مليون ونصف مليون إنسان، والعبث بحياتهم، وازدراء إنسانيتهم وأبسط حقوقهم؟ هل يخافون من المجرم إلى الحد الذي يحوّلون معه جريمته إلى عدالة وحق وشرعية لا تقبل الاعتراض عليها ولا مجرد مناقشتها؟ إن رد الفعل العالمي البائس على ما يجري في غزة يُخجِل كل إنسان شريف في مرآة إنسانيته الحية وأمام ضميره اليقظ، وانتمائه البشري السليم. وإذا كان ما نتطلع إليه من العالم ونناشدهم باسمه ونحاسبهم عليه، يقع في هذه الزاوية من زوايا وجهة النظر والعلاقة والمواقف المطلوبة حيال أفعال همجية من هذا النوع، فما هو موقفنا نحن من مسؤولي أمتنا التي ينتمي إليها المحاصرون، وتسمع تضرع الأطفال والنساء الضحايا واستغاثاتهم ولا تستجيب بشيء يذكر لما يحرك الحجر، بل يذهب بعضهم إلى المتشفي بمن يستغيث، ويحمّله مسؤولية الموت جوعاً، لأنه لم يرخص كرامته أمام لقمة عيشه، ولم يستسلم لذابحه، ولم يمجد من يتنازل عن الوطن والحق ليرضي الأعداء ويبهج حلفاءهم ويفوز بثقتهم. إن مأساة غزة تتكرر منذ سنين، وحصارها مستمر بوجهيه الصهيوني والعربي، وصوتها لا يُسمع، ودمها المراق لا يعني حتى لبعض أبناء شعبها الفلسطيني شيئاً، بل يبدو ذلك مطلوباً بقسوة أشد وهمجية أبشع. إننا نقدر موافقة وزراء الخارجية العرب الذين اجتمعوا في إطار الجامعة العربية يوم 27/11/2008 على إرسال مساعدات غذائية وطبية إلى غزة عبر مصر والأردن، على الرغم من سكوت مشبوه استمر أسابيع وشهوراً على الوضع المأساوي هناك، ونقدّر أن السرعة التي يتطلبها التنفيذ للقرار الفوري قد تأتي متأخرة كثيراً على من يعانون في المشافي.. ويبقى في حلوقنا شوك الصبار ونحن ننتظر رأب الصدع بين فتح وحماس وتوصل أهل البيت الفلسطيني إلى تفاهم وتعاون، وننظر إلى دول عربية ومرجعيات دينية ومواقف سياسية لا يمكن قبولها ولا استيعاب أي تفسير مقبول لها.. منها ما يحمّل حماس ومقاومتها و" صواريخها العبثية؟" مسؤولية الحصار الصهيوني المبرمج، ويسوّغ العدوان عليها والهجمات والملاحقات المستمرة لأبناء غزة ومن هم على شاكلتهم موقفاً وتوجهاً في الضفة الغربيةوالقدس.. ونتساءل: ما هو المطلوب من هؤلاء؟ أن يموتوا من دون صوت ولا حراك ولا شكوى؟ لقد ذُبحوا وجُوعوا ولوحقوا وقاتلوا وهادنوا.. ولم يقف إلى جانبهم أحد.. فهل المطلوب هو إبادتهم بوصفهم " الإمارة الإسلامية" التي تهدد أنظمة عربية وتنظيمات من شتى الأنواع، ودولاًً كبرى على رأسها الولاياتالمتحدة الأميركية؟.. إنهم فيما يبدو وكما يقدّمون للناس من نوع بشري لا ينبغي أن يبقى، نوع يجوز بل يتوجب ذبحه بلا رحمة حتى لا يحتذى ولكي يعود ما تبقى من فلسطين التي يتم التفاوض عليها.. وفي هذه الأحوال والأوصاف والمطالب، هم سبب الاستيطان الصهيوني المستمر في الضفة الغربية، والتهويد المستمر للقدس، وإقامة جدار العزل العنصري الذي يقضم الأرض ويحاصر الناس، وهم وراء تعرُّض قاطفي الزيتون الفلسطينيين لهجمات قطعان المستوطنين الصهاينة، ويقفون وراء إخفاق المفاوض الفلسطيني وعدم قدرته على الحصول على شيء من " أحبائه وأصدقائه" الصهاينة الذين يجرجرونه منذ سنين ويصفق لهم في الملتقيات الدولية ومؤتمرات حوار الأديان، ويتعامل معهم في السر والعلن، وينشر الإعلانات المأجورة في الصحف العربية والإسرائيلية للترويج للتطبيع معهم استناداً إلى المبادرة العربية التي تعترف بهم وتدعو إلى تطبيع العلاقات معهم، وتقبّل جباههم ووجناتهم إن هم قبلوا دولة فلسطينية بحجم بلدية قرية وصلاحياتها، تقوم على مقابر المقاومين الفلسطينيين المحاصرين في غزة والملاحقين في الضفة الغربية، بمن فيهم كتائب شهداء الأقصى!؟.. إن هذا جارح لعمق الروح والوجدان، ولكن الجارح الأشد إيلاماًً استمرار الخلافات الفلسطينية الفلسطينية، خلافات فتح وحماس من جهة، وانقسام العرب على من يناصر هذا الفريق أو ذاك ليصبح الانقسام عربياً في هذه الحالة من جهة أخرى.. ويدخل في الدائرة الجارحة ذاتها الممارساتُ والمواقف العربية المستهجنة، ومنها مؤخراً ما يتم في موقعين أو موقفين: 1 نشر إعلانات مدفوعة القيمة، تروج للمبادرة العربية التي أصبحت قرار قمم عربية ابتداء من قمة بيروت 2002، إعلانات تدعوا إلى التطبيع، وتقرن علم فلسطين بعلم الكيان الصهيوني، وتحيطهما بإطار من أعلام الدول العربية كلها، وتقدم لمن ينشرها إغراء مادياً وحماية سياسية وشهادات حسن سلوك حضارية. إن المبادرة التي تجرجر أذيالها منذ سنوات ست لم يقبلها العدو الذي لا يستفيد منها أحد سواه، لأنه يريد المزيد ويطمع ب "الكرم" العربي الذي لا حدود له.. ويضرب ويهدد ويتوسع ليل نهار ويتكلم عن سلام ويريد استسلاماً؟ لقد رفضت جماهير الأمة الاعتراف والتطبيع، وقيام أنظمة عربية بالترويج لهما بهذا الشكل سقوط بنظر الجماهير، وبنظر العدو أيضاً لأنها تدفع لكي يقبل منها الانهزام والاستسلام ويقبلها المحتل بل يستنجد بها؟ وهذا شأن أخذ ينمو في الجسم الرسمي العربي والحياة السياسية العربية، فما التهديد الذي رافق عراقيين إذا لم يوقعوا الاتفاق "الأميركي الأميركي" الذي يرسخ احتلال الولاياتالمتحدة الأميركية للعراق ويبقيها فوق صدر العراق وشعبه، ويحوله إلى موقع ينطلق منه التهديد والعدوان إلى جواره.. إلا غيض من فيض الهيمنة الغربية والصهيونية المستشرية في الفضاء العربي. إن قبول العدو الصهيوني في جسم الأمة العربية وتطبيع العلاقات معه مرفوض جماهيرياً، ولن يصبح مقبولاً حتى لو غيروا البرامج التعليمية والمناهج التربوية، وتسللوا عبر وسائل الإعلام، وروجت لهم أقلام، وتبنتهم سياسات، ودخلوا دوائر الأحلام، وأصبحت صورهم وكلمات الإشادة بهم فوق كل جدار عربي فإن الجسم العربي سيرفضهم، سيرفض الكيان الصهيوني ويلفظه، ويتغلب على السموم الاستعمارية والرخويات السياسية والثقافية، ويستعيد صحته وسلامته وقوته، ويقاوم بشجاعة وإيمان ويصمد بقوة وصبر، ويعمل دون كلل أو ملل حتى يستعيد المبادرة ويحرر الأرض المحتلة والإرادات العربية المعتلة.. إن دلائل الصحة والممانعة موجودة، وكلما تغلغلنا في العمق الشعبي العربي أكثر اكتشفنا ما يعزز الثقة ويفتح أبواب الأمل ويؤسس للتفاؤل. وفي هذا المجال وبهذه المناسبة أود أن أتوجه بالتحية والشكر لجريدتين عربيتين رفضتا نشر الإعلان التطبيعي المدفوع القيمة: العرب اليوم الأردنية والخليج العربي الإماراتية التي قالت يوم الأربعاء (26/11): "كان المطلوب منه ( أي الإعلان) تعويد العرب على علم العدو متجاوراً مع الأعلام العربية، فيتسلل التطبيع من النافذة، بعدما سدّت أمامه أبواب كثيرة حتى الآن."، وقالت: "حبذا لو ذهبت الأموال التي تدفع للترويج ل "المبادرة" إعلانياً، لتوفير الأدوية والغذاء لأطفال غزة".. شكرا لكم وتحية فالموقف الأصيل يعزز الأصالة والشجاعة المعنوية تؤسس لشجاعة المواجهة في كل ميدان. 2 مصافحةُ مرجعية دينية كبرى بحجم " شيخ الأزهر الشيخ سيد طنطاوي" لشمعون بيريس في مؤتمر حوار الأديان بنيورك، بحميمية فذة، تتجاوز كل جرائم الأخير وإرهابه وكونه رمزاً للعنصرية والاحتلال والإجرام وإرهاب الدولة، ومن يقف وراء القتل والدمار في المنطقة، في وقت يحاصر فيه غزة حتى الرمق الأخير. وهي مصافحة تزري بمشاعر العرب والمسلمين في كل أرجاء الأرض.. ولا يمكن أن تكون لها رمزيتها في المشاعر والقلوب.. فالصهاينة أعداء محتلون قتلة وإرهابيون مجرمون، يحولون مقابر المسلمين إلى حظائر، ويهودون القدس والأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، ويغتالون أحلام الأمتين العربية والإسلامية ويسخرون من رموزنا الوطنية والقومية والدينية.. فهل يعتقد شيخ الأزهر أننا ننسى الوطن والشهداء والمعاناة وتاريخ المجرمين لأنه صافحهم؟ هذا شأنه ولنا شأننا.. ونقدر أن الإسلام براء من أفعال تخدم اليهود الصهاينة المجرمين. إن المعنيين بهذه الشؤون والمواقف والتصرفات والممارسات من أبناء الأمة مطالبون بموقف ورأي، ولا يمكن أن يسكت المرء على ذبح مئات آلاف البشر بيد جلادي العصر، ولا على أن تقوم جهات مسؤولة في الوطن العربي بنشر الدعاية لهم، ولا على أن يقوم رمز مرجعية دينية بمصافحة رموزهم باسم الإسلام، وفريق من المسلمين محاصر ومضطهد وملاحق ويعاني من الاحتلال.. إن من يسكت على ذلك كأنما يبارك فعله ويتجاوز عما يشار إليه من أفعال إجرامية تدينه. إن هذا يمس الوجدان بعمق، ولا يمكن قبوله بأية حال من الأحوال. فهل من سبيل إلى أفعال عربية وإسلامية مجدية، تترجم عملاً إيجابياً على أرض الواقع، في هذا الزمن العربي الذي يفوق فيه فعل استباحة حياة البشر وحقوقهم وعقولهم وإيمانهم حدود الخيال والتخييل، ويصل التخاذل وتهافت الهمم إلى الحضيض.؟