العبث الصهيوني بحياة الفلسطينيين في غزة، تحت نظر العرب والمسلمين والعالم أجمع، لا يكشف النازية الصهيونية الجديدة ونوع العنصرية البغيض الذي تمارسه، ومدى توغل الإجرام في طبيعتها وتكوينها ووسائلها، وسقوطها الأخلاقي فقط.. وإنما يكشف بلادة العرب والمسلمين بدرجة كبيرة ومثيرة، وتفكك العالمين العربي والإسلامي وضعفهما، وفساد رؤية الكثيرين ممن يرجى منهم الخير في العالم أو إفسادها أو غيابها تحت ضبابية الرؤية العربية المتاحة التي جعلت قضية فلسطين تصل إلى ما وصلت إليه الآن في الوجدان العربي. وإذا أضفنا إلى المشهد اليومي الدامي المعاناةَ اليومية الفظيعة للناس من جراء القتل والحصار والتهديد بالاجتياح والدمار.. وجدنا أنفسنا بمواجهة مسلسل إبادة بشرية نتابع حلقاته بدم بارد وبلا اكتراث عجيب.. كأنما لا تعنينا حياتنا ولا أهلنا ولا قضايانا. وإذا كان هذا الوضع يَطرح على ما يسمى المجتمع الدولي، بدوله وهيئاته ومؤسساته أسئلة إنسانية تؤرق وجدان من لديه وجدان وأخرى تتعلق بالعدالة والأمن مما يُفتَرَض أن يهتم به، ولا تثير في ذلك المجتمع حراكاً ولا وجداناً بل تزيده تواطؤاً وبؤساً وبلادة.. فإنه يلقى على العرب أسئلة تتعلق بالحق والواجب، بصلة الرحم والدين والقومية، أسئلة تتعلق بالانتماء والوجود الحي والأمن الشامل، كما تطرح على بعض الفلسطينيين أسئلة أكثر اتساعاً وجذرية وعمقاً وإلحاحاً، تتصل بالقضية والشهداء والمعتقلين والأسرى والأرامل.. بالتاريخ والمستقبل اللذين يُقرآن في ضوء واقع راهن يندفع فيه فريق نحو الموت دفاعاً عن الحياة والحق، في حين يدفع فريق آخر عربة الموت والإبادة الصهيونية إلى الأمام نحو أخوته المحاصرين بالعنصرية البغيضة والنازية الجديدة، "مدعياً" أنه ينقذ الموقف والقضية والشعب؟ ربما يفعل ذلك بالاجتثاث أو الإبادة السريعة لمن يختلفون معه.. لتأتي من بعد ذلك حلول نهائية فردوسية للقضية وللشعب الذي قدم تضحيات لا توصف على طريق قضية عادلة لمدة قرن من الزمان!؟ لقد فقدت قضية فلسطين بُعدها العربي ومسؤوليتها القومية منذ زمن، وأخذ بعض الرسميين العرب يدخلون على خطها وسطاء أو متصدقين أو خطباء، وفقد بعض الفلسطينيين هويتهم النضالية ومسؤوليتهم الوطنية العضوية عن شعبهم أو عن جزء من شعبهم وعن أهداف مئات آلاف الشهداء الذين قضوا على طريق تحرير فلسطين وحماية شعبها وحقهم فيها، فابتعدوا واختاروا اختياراً مريحاً واستراحوا من ضريبة الحرية والتحرير، ومالوا إلى نعيم من نوع آخر. وغابت منظمة التحرير أو غيّبت، وبقيت مظلتها ورايتها اللتان يحملهما البعض ليفاوض العدو تحتهما وباسمهما من دون تفويض شعبي أو تصريح أو تلميح بما يجري، أو نتيجة تذكر.. وكأن لديهم تفويضاً تاريخياً بفعل ما يشاؤون أو ما يطلب منهم بقضية هي ملك الشعب الفلسطيني ومسؤولية الأمة في هذا الوضع يُبرز سؤالاً جوهرياً عن مسؤولية بعض المثقفين الفلسطينيين خاصة والعرب عامة الذين تعني لهم قضية فلسطين وشعبها شيئاً يتعلق بالمستقبل والمصير، بالمبدأ والموقف، بالوجود والانتماء على المستويين الوطني والقومي، بالهوية والكرامة العربية والعدالة الاجتماعية والمواقف الإنسانية.. أين هم، وما هو موقفهم من هذا الوضع المحزن والتصرفات البائسة، وماذا يقولون في ذلك كله، وكيف يرون المخرج من الأزمة، وكيف يؤثرون في التوجه العام لمعالجتها، ومتى يحضرون بقوة في ساحة صنع القرار على المستويين الوطني والقومي من جهة والرسمي والشعبي من جهة أخرى.. ليكون لهم تأثير وفعالية وحضور، وما هو تأثيرهم بوصفهم وجدان الشعب وحمَلَة معرفة وأصحاب رأي وموقف، وأين صوتهم؟ أعرف تمام المعرفة أن هناك آراء وتوجهات مختلفة حول قضية فلسطين وكل ما يتعلق بها، وأن الاختلاف مزمن وكان دموياً أحياناً، وأن هناك دكاكين ومناضلين، وأن هناك مواقف لفلسطينيين من مسارات القضية وخيارات أطرافها والفصائل العاملة في نطاقها.. وأن هناك مواقف لعرب يدعمون هذا الخيار أو ذاك ويتشتتون أو يتوزعون خلف هذا الموقف أو ذاك، ويعرقلون أي وفاق أو اتفاق أحياناً بتعاون مع صاحب دكان أو صاحب موقف. وما يعنيني طرحه، ومن أتوجه إليه مباشرة في خطابي هذا هو الفلسطيني والعربي المؤمنان بعروبة فلسطين كل فلسطين، وبحق العودة للفلسطينيين غير منقوص، وبالقدس عربية التأسيس والتاريخ وعاصمة لدولة كل فلسطين وأولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، وبالإعداد والاستعداد لتحرير الأرض والإنسان والقرار بامتلاك القوة الشاملة على أرضية الإيمان العميق بالله والحق والنصر، والثبات على المواقف المبدئية الأصيلة.. لأن القضايا الكبرى في حياة الشعوب لا يقرر مصيرها قصير النفس وقاصر الرؤية وقصار القامة.. والمخرج لأمن وسلام واستقرار مخرج نضالي مهما طال الزمن، والمستقبل للأمة العربية مهما كانت التضحيات.. لأن هذا ما نستفيده من الدروس ونستخلصه من العبر ومن دراسة المعطيات على المدى البعيد في جانبي الصراع العربي والصهيوني. إن المستقبل لنا في معطيات المواجهة إذا كانت مواجهة شاملة، وأن العدو وحلفاؤه لن يتوقفوا عن العدوان واستئناف التهديد.. هذا هو تاريخ المنطقة منذ القدم وهذا هو المخرج من وضعنا الراهن والضمانة لمستقبل قادم كما يفيدنا الصراع المديد، وهذا هو طريق الوصول إلى سلام وأمن واستقرار في المنطقة وفي فلسطين التي يشتعل فيها منذ عقود صراع حول الأرض والهوية والثقافة والوجود. إنني أدعو الذين يعنيهم هذا التوجه ويقتنعون به ويختارونه من المثقفين الفلسطينيين والعرب إلى جبهة ثقافية قوية تعمل على: 1 إعادة المكانة والاعتبار والفاعلية لمنظمة التحرير الفلسطينية على أرضية ميثاقها الأساس من دون أي تعديل في الأهداف والجوهر، لتكون المنظمة هي صاحبة الرأي والموقف والقرار في الشأن الفلسطيني كله. 2 إعادة هيكلة المنظمة حيث تكون بيتاً لكل أبناء فلسطين، لكل فصائلهم وتجمعاتهم البشرية وأحزابهم وتكتلاتهم الاجتماعية، لكل منظماتهم وتنظيماتهم أينما كانوا.. ولتمارس ديمقراطية منضبطة تحت سقف الميثاق والأهداف، ومسؤولية وطنية وقومية عليا لا تشوب مواقفها الشوائب، ويُجمع عليها الشعب الفلسطيني وتخضع لمراقبته ومحاسبته. 3 إعادة محورة العرب، شعبياً ورسمياً، حول قضية فلسطين بوصفها قضية عربية مركزية، وشدهم إلى الالتزام بها وإلزامهم بالمسؤولية عنها.. على المستويات كافة: ثقافية وسياسية، شعبية ورسمية، اجتماعية واقتصادية.. وعلى مستوى التنظيمات والمنظمات.. فقضية فلسطيني قضية عربية ومسؤولية عربية، وتجنب التيه والضبابية في الخيارات والتوجهات في هذا المجال مطلوب بصورة رئيسة. ونحن نثق بأنه عندما يتوحد الموقف الفلسطيني على خلف أهداف واضحة ومبدئية وثابتة فإنه يستقطب من حوله أبناء الأمة ويساهم في توحيد صفهم وموقفهم وتوظيف إمكانياتهم توظيفاً راشداً في خدمة قضايا رئيسة ومصيرية يتوقف على الوصول إلى حسم لصالح الأمة فيها مستقبلهم. 4 حضور المثقفين العرب المعنيين بهذا الخيار حضوراً فاعلاً يتجلى في حسن تبنيه والدفاع عنه والإقناع به وترسيخ الجهد الفلسطيني والعربي حوله.. واستقطاب مثقفين من كل أنحاء العالم يدافعون عن الحق والحرية والعدالة، ويتخذون مواقف من الاحتلال والاستعمار والعدوان والعنصرية والتسلط الأميركي على القرار الدولي والمؤسسات الدولية، بالحوار والإقناع، ليناصرون قضية فلسطين وشعبها بوصفها قضية عادلة. إننا بحاجة ماسة إلى انتفاضة فكرية ثقافية مبدئية تعمل وتضغط لكي تعيد إلى الشعب الفلسطيني وحدته خلف منظمة موحَّدَة موحٍّدة وخلف أهداف وخيارات وقيادات، ولكي تعيد التوهج الفذ لنضاله التاريخي ورسوخ مبدئيته وثوابته، والإيمان العميق بمستقبل القضية وجدوى النضال والتضحية من أجلها. نحن بحاجة ماسة لهذه الانتفاضة الثقافية لنرد على التحديات، ونواجه الاختراقات، ونسد الذرائع، ولنمسح عنا عار السكوت على المجازر ومسلسل الإبادة والحصار القتّال الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني من جراء الاحتلال الصهيوني والصمت العربي والدولي، ذلك الذي منينا به ونستشعره في كل لحظة.. إننا بحاجة ماسة لانتفاضة فكرية ثقافية تعيد للعرب إيمانهم بالقضية ومسؤوليتهم عنها واقتناعهم بأن لا خلاص لهم من أزماتهم ومشكلاتهم على المستوى القطري إلا بتخليص الأمة من الاحتلال والدولة العنصرية والهيمنة الغربية والتهديد اليومي والابتزاز والتبعية والتدخل في شؤونهم ومحاولات الهيمنة عليهم وإفساد قيمهم وشبابهم وتوجهاتهم وتشتيت خياراتهم.. إننا بحاجة لدعم الأمة لشعب فلسطيني موحَّد في أهدافه التي حددها ميثاق منظمة التحرير الأصلي الأصيل، شعب يعمل بكل طاقاته ومعه أبناء أمته تحت لتحقيق تلك الأهداف.. نحن بحاجة للمنظمة التي اكتسبت اعتراف أكثر من 86 دولة في العالم بها قبل أن تزحف أوسلو وأخواتها على كل هذا الاعتراف وتعيد القضية إلى مستنقع مفاوضات عقيمة مع عدو يقتل ويحاصر ويبيد ويفاوض على الفتات في الوقت ذاته، ويريد أن يبتلع كل شيء وأن يكسب اعترافاً عربياً وإسلامياً به وبجريمته لقاء لا شيء، ويطالب بتطبيع شامل معه من دون أن يقدم للشعب الفلسطيني وأحراره أي شيء مما هو حق لهم.. ويسمي إعادة أي حق أو أرض تنازلات صعبة ومؤلمة.. و..؟! فهل يجتمع مثقفون فلسطينيون وعرب في جبهة موقف ومبدأ قوية ومتماسكة ومستعدة لمواجهة الأخطار وتحمّل المسؤوليات، تشكل وجداناً حياً، وتقف خلف أهداف فلسطينية وعربية على رأسها عروبة فلسطين وأهمية تحريرها مما حدده ميثاق منظمة التحرير الوطني الفلسطيني؟ وهل يقفون خلف إعادة الاعتبار، كل الاعتبار، لفاعليتها ودورها ومكانتها على أرضية الميثاق والأهداف بوصفها بيتاً للفلسطينيين كافة، وهل يدعمون هذا التوجه ويناصرون هذا الخيار بثقة وفاعلية؟ إنني لأرجو ذلك بتفاؤل، وأدعو إليه بقوة.. والله من وراء القصد.