يحكى عن الشيخ جمال الدين الأفغاني أنه لما زار الهند، أيام الاحتلال البريطاني، وشاهد الوضعية المزرية التي كان عليها أهل البلد، تعجب كيف يتمكن شعب قليل العدد (البريطانيون) من السيطرة على شعب عدد أفراده عدة أضعاف البريطانيين، فقال متوجها لأعيان هذا البلد، ما معناه، أنه بأزيزكم (أصواتكم) فقط تستطيعون إخراج الانجليز من دياركم. تذكرت ما قاله الشيخ جمال الدين الأفغاني وأنا أشاهد "سباط" صحفي قناة البغدادية يخترق حصار رجال الأمن في اتجاه رأس بوش، الذي يسميه البعض برئيس العالم، وتساءلت: ماذا لو أن كل العرب نزعوا أحذيتهم وراحوا يضربون بها الأمريكان وعملاء الأمريكان في المنطقة العربية. رئيس العالم يضرب في آخر عهدته بالحذاء، وأين؟ في العراق الذي دمرته جيوشه، ونصبت عليه زمرة لا سلطة لها أمام الضباط الأمريكان. عراق مقسم، يمارس فيه الجيش الأمريكي كل أنواع الجرائم ضد الإنسانية، و"أبوغريب" ما هو إلا صورة مصغرة لآلاف الأبوغريبات في بلاد حمورابي. عراق، تواصل فيه قوات بوش القضاء على كل مظاهر الحرية والرجلة والأنفة. عراق، يتعرض فيه الناس يوميا للقتل، حيث بلغ عدد الضحايا العراقيين منذ بداية الحرب أكثر من مليون ومائتي ألف قتيل. من هذا العراق -الذي أعتقد بوش أنه انتهى فجاء مودعا ومتشدقا، بعنجهية راعي البقر المنتصر، في حديثه عن النصر المحقق- وقف الصحفي الشاب منتظر الزيدي، في القاعة المغلقة والمحروسة، ليصفع سيد العالم بفردتي حذاء. صحيح أن ضربة "سباط"، هي من الناحية العملية، لا تؤذي كثيرا، ولا تقارن بنتائج الجريمة ضد الإنسانية التي ارتكبتها أمريكا في حق الشعب العراقي وتاريخه العريق. صحيح أيضا أن هذه الصفعة لن تعيد للعراق حريته وكرامته وقوته التي كان ينعم بها في ظل "الديكتاتور" صدام حسين. كل هذا صحيح، لكن رمزية ضربة "السباط"، عندما توجه نحو رئيس أعظم قوة في العالم، وخلال زيارته للعراق بالذات، وهو محاط برجال أمنه، وفي نهاية حكمه، فأنها تعني، من الناحية الرمزية، الكثير والكثير جدا. ر فلنحلل، إذن، رمزية القول، ورمزية الفعل. الصحفي العراقي، الذي أصبح بطلا قوميا، صاح، وهو يوجه حذاءه نحو وجه بوش، قائلا: "هذه قبلة آخر السنة يا كلب". كلمة "كلب"، تعني الكثير في الثقافة العربية. الكلب، رغم تميزه بصفة الوفاء للسيد، فهو مكروه لدى العرب: لا ينام أو يأكل معهم. العربي عندما يصف شخص معين بالكلب فمعنى ذلك أن هذا الشخص بلغ قمة الانحطاط والنذالة. في الدين الإسلامي، الكلب مكروه، نجس، لا يسمح له بالاقتراب من الأماكن الطاهرة بل وينصح بغسل أي إناء نبح فيه الكلب أو أكل منه قبل استعماله. البعض ينصح بغسله ست مرات والسابعة تكون بالتراب لإزالة كل أنواع الميكروبات والفيروسات. إذن فالصحفي العراقي عندما وصف الرئيس الأمريكي بالكلب وضعه في أحط مرتبة وأسوئها. كلمة "كلب" رافقها فعل توجيه "سباط" نحو وجه بوش. "السباط" أو الحذاء، هو أيضا له رمزيته الخاصة جدا في الثقافة العربية، فإضافة لوظيفته في حماية الرجل –آخر وأسفل جزء في جسم الإنسان-، فأن له رمزية أخرى لدى العرب وهي انحطاطه، وقلة قيمته المعنوية، واستعماله لإهانة من يراد إهانته. عندما يوجه شخص ما أسفل حذائه نحو وجه شخص آخر، أو يستعمل "السباط" لضربه، فهذا يعني، في الثقافة العربية دائما، أن الشخص المضروب لا يساوى قيمة حذاء، لذلك يحق معاملته باحتقار شديد؛ فقد كان بالإمكان ضرب بوش بقلم أو مفتاح أو نظارة أو دفتر بدلا من الحذاء. الصحفي منتظر الزيدي، ربط في تصرفه بين الكلب والحذاء، والكلب هو الحيوان الوحيد الذي يضرب، عند العرب بالسباط. أهل البدو، عندما يشاهدون كلبا يقترب من الخيمة أو من باب البيت، فأن أول حركة يقومون بها، لإبعاده، هي ضربه بالسباط . الصحفي العراقي لم يتوفر لديه أي شيء آخر يرد به على تبجح الرئيس بوش، الثمل بالانتصار الذي حققه في العراق، غير "سباطه" الذي هو الشيء الوحيد الصلب الذي لازال يصلح للاستعمال لدى العراقيين بعد أن نزع منهم الأمريكان كل ما يملكون. ضربة "السباط" برمزيتها، هي أقوى من معركة، وأقوى من قذيفة صاروخ، لأنها أصابت أمريكا في العمق. رمزية الكلب والسباط وجهتا نحو رمزية أهم شخصية في هذا البلد. أتفه شيء ضد أهم رجل، سلاح الضعيف ضد رئيس أقوى دولة في العالم. هنا تبرز قوة الضعيف الذي لا يملك أي شيء في مواجهة قوة القوي الذي يملك كل شيء والذي يكون مصيره دوما، عندما يدخل في صراع من هذا النوع الغير متكافئ، هو الهزيمة المؤكدة. لقد حدث ذلك مع فرنسا في الجزائر، ومع الأمريكان أنفسهم في الفيتنام. ضربة "السباط" هي، بما تثيره في النفوس الخائفة من قوة وما تشحذه من همم، أقوى بكثير من صواريخ أعظم القوى في العالم. الذي يضرب بالحذاء ليس لديه ما يخسره، بل ربح الكثير: أصبح بطلا عربيا. بالحذاء برهن منتظر على أن الشعب العراقي لم يمت، وأن شعلة المقاومة ستبقى متوقدة لدى الشعوب العربية التي جارت عليها القوى العظمى بتواطؤ من حكامها. تصرف الزيدي هو رسالة فهمها كل المواطنين العرب. من المحيط على الخليج، نفس الموقف المؤيد والمساند للصحفي العراقي. مظاهر الفرح، بل والتمتع بضربة أبن البغدادية لبوش، نلمسها من خلال ردود الفعل المعبر عنها من طرف الآلاف من العرب في مواقع الانترنيت، والتصريحات التي أدلوا بها إلى القنوات التي فتحت ميكروفوناتها للمحتفلين "بالنصر الآتي عبر الحذاء"، ومن خلال المظاهرات التي نظمت هنا وهناك. رغم قمع الحكام المدعمين من أمريكا وجيوشهم المكرشة، ورغم العولمة الاتصالية وثقافة الكباريهات الفضائية، ورغم الردة التي تلمس في كل مكان على مستوى هذا العالم العربي، فأن إرادة المقاومة لا زالت متوفرة لدى الشباب العربي، فأمة فيها من يضرب رئيس أعظم دولة بالحذاء هي أمة لا تندثر. المهم، أن ضربة "السباط" حققت شيئا مهما جدا بالنسبة للعراقيين، فهي (الضربة) ستجعل بوش لا يهنأ أبدا بعدها. لا شك أن الرئيس الأمريكي، إن كان له إحساس بالمهانة، سيقضي باقي حياته مسكونا بصورة الحذاء العراقي الموجه نحو وجهه. لقد أصبح في حياة بوش كابوس أسمه "السباط" العراقي. ويبقى على النخب العربية العمل على استثمار هذا الحدث وما حققه من "حركة" على مستوى الشارع العربي الذي اعتقد الكثير أنه "مزطول" بصور الخلاعة التي تبث عبر القنوات الفضائية العربية.