حوصر الفلسطينيون في غزة انتقاما من ديمقراطية شهد لهم بها العالم، وبارك الغرب الحصار برفع مستوى العلاقة بين الاتحاد الأوروبي إلى مستوى الشراكة، وشارك العرب في الجريمة التي عمّقتها إدارة الشر بالتقتيل والتدمير والتخريب والإرهاب المنظم الذي أصاب سمراء بوش- الراحلة معه بعد أيام- بالحوَل فلم تر فيه غير ما يهش به الفلسطينيون على أنفسهم من صواريخ بدائية ليعلنوا بها أنهم ما زالوا في غزة يمشون.. لم يشأ الصهاينة أن يتركوا المسلمين يدخلون عامهم الهجري الجديد سالمين حالمين مع كل آثار التخلف والاستبداد والقهر، ولم يلجوا عام البشرية الجديد إلا بعد أن اغتسلوا بدماء الفلسطينيين في أكبر مجزرة ينفذونها في أهل غزة، وأنجزوا بها وعد الصديق بوش الراحل على وقع الأحذية في إقامة دولة فلسطينية على نصب محرقة ما بعدها محرقة، فقد وفّت أحد ثلاثي الإجرام المنظم في تل أبيب بما أعلنته في قاهرة المعز"سابقا"، ولم يمض على وعيدها إلا بضع ساعات حتى راحت طائرات إرهاب الدولة تدك كل ما في غزة، وفي أقل من ثلاثة أيام سقط ما يزيد عن ثلاثمائة شهيد، لعل ذلك يغير خارطة غزة السياسية التي تقول وزير خارجية الكيان اللقيط إنها من احتياجات المنطقة كلها، وأن دعما عربيا تلقته من قوى عربية"يا للعار"هو أكبر مما جاءها في حربها الظالمة التي انهزمت فيها بلبنان منذ عامين . إذا كان الصهاينة قد كشفوا عورة النظام السياسي العربي في غزة وأظهروا أن قميصه قد ُقّد من جميع الجهات، فإن الردة لم تبدأ اليوم إنما ظهر" ميكروبها" منذ تحالف العرب المغرمون بالشاذ لورانس مع الغرب الحاقد على الدولة الإسلامية العثمانية، مرورا بالخيانات العربية والفلسطينية الكبرى لقضية الأمة الأساسية، وانتهاء بالخروج العلني" لصُرّة "العرب من الصراع عندما انحرف السادات بمصر وحوّلها من معنية بالصراع إلى وسيط جبان فيه، إلى أن كان الهروب أو"التهريب"الأكبر لسفينة المقاومة نحو الشاطئ الخاطئ، وعندها ركن العرب إلى ضعفهم وعمالة بعضهم وقالوا لن نكون فلسطينيين أكثر من الفلسطينيين أنفسهم، وهنا هربت مصر أمام الملأ وقد حوّلت بوابة غزة الوحيدة على العالم إلى حائط يسقط تحته الفلسطينيون مرضى وقتلى ومسجونين وكأنه رقم من أرقام زنزانات الصهاينة، بل كأن مصر لم تعد إلا دكانا لتحقيق الربا السياسي بعدما كانت عنوان العرب الدائم . لم يكن الحصار الذي ُضرب على حكومة انتخبها شعبها ديمقراطيا إلا مرحلة متقدمة من برنامج إجهاض مشروع الدولة الفلسطينية القابلة للحياة، فقد مسّ الحصار الظالم المحكم منذ ما يزيد عن العامين كل مظاهر الحياة وجعلها موتا يتنفس بجيل فلسطيني مهزوم ماديا ومعنويا لا يقوى على المقاومة، ولما تجاوز الفلسطينيون حالتهم وأطالوا بقاء صمودهم لم يبق إلا الإجهاز عليهم بقوة النار والتدمير، فتأتي وزيرة الدولة الإرهابية الأولى في العالم لتعلن من القاهرة عن بدء خطة التدمير وهي بذلك إما أنها تريد توريط النظام المصري وإظهاره بمظهر العارف بتفاصيل الجريمة و المشارك فيها بالصمت خاصة بعد التسريبات الإعلامية التي تؤكد أن دولا عربة كانت على علم مسبق بالمخطط الهمجي الصهيوني وتوقيته على غزة، وإما يعتبر ذلك تدليلا على التزكية- التي تقول هذه المصادر-إن الكيان الصهيوني يكون تلقاها باعتبار حماس السياسية وليست الدينية هي مشكل كبير لكثير من العرب الرسميين تماما كما هي لإسرائيل، ولذلك يمكن أن نقول إن ما يجري لغزة هو- بكل المعايير- حرب دولية قذرة على الفلسطينيين لإنهاء فعل وروح المقاومة التي ينوب فيها عن الأمة كلها الشعب الفلسطيني وحده، خاصة وأن القضية الفلسطينية أصبحت عبئا على الأنظمة العربية وتؤكد عجزهم كل يوم . صحيح أن الجامعة العربية لم تستطع أن تتحرك في أخطر ظرف تمر به الأمة، ربما لأنها ليست إلا انعكاسا سيئا لمواقف النظام الرسمي العربي من جهة، و لأنها من جهة أخرى لم تستطع أن تكون إلا دائرة صغيرة في خارجية مصر المحكومة من طرف المقيمين- منذ قرابة الثلاثين عاما - في قصر القاهرة التي فتحت نافذتها مشرعة على الأرض المحتلة وغلّقت ما عداها من النوافذ المطلة على الأشقاء الممانعين بوجه خاص، ولكن الصحيح أيضا أن النظام الرسمي العربي الذي لم تحركه الأحداث الخطيرة الدامية كي يعقد مؤتمرا عاجلا تحت أية تسمية لأي من وزرائه ولم يتفق على عقد قمة لحكامه بعد مرور أكثر من أربعة أيام من القصف الصهيوني المكثف المتواصل واكتفى بلعب دور الهلال أو الصليب الأحمرين الدوليين، يمكن أن ُيفعّل دور هذه الجامعة بترميم نفسه في هذه المرحلة الحرجة والعودة إلى شعبه، ليس من باب الدخول في حرب لم يربح معركة فيها منذ ستين عاما إلا ما حققته المقاومات الشعبية، ولكن من خلال بعض الخطوات التي لا تكلفه كثيرا، بل ستجعل ملوكه سلاطين وأمراءه ورؤساءه ملوكا –طواعية واختيارا- على الشعوب العربية كلها، وحتى لا يصبح شريكا في الجريمة: *فك الحصار المفروض على الشعب الفلسطيني الأعزل المثقل بسلاسل الاحتلال، وتزويده بما يحتاجه في معركة البقاء والتحرر. *قطع العلاقات القائمة- على كل المستويات- مع الكيان الهجين الذي ُيعيّر الغرب به العرب والمسلمين، ويفاخر به على أنه الديمقراطية الوحيدة بين الديكتاتوريات المتخلفة . *تخفيض حجم التعاون- بكل أشكاله- مع جميع الدول التي تدعم الظلم والباطل والاحتلال . *سحب الاستثمارات العربية من تلك الدول وتحويلها إلى الدول الصديقة المعترفة بالحق العربي، أي تعريض مصالح الغرب الدائمة لدى العرب إلى إمكانية إنهائها، خاصة في هذه الظروف المالية العالمية المتأزمة . *تكثيف التعاون العربي العربي- بكل أشكاله- وتحريره من الممارسات السياسية حتى يؤتي أكله ويعطي قوته المادية الواجب توافرها في أية نهضة وفي أي حوار أو حرب حضارية . إذا كانت دماء الفلسطينيين هي دائما وقود ماكنة الأحزاب المتنافسة على رئاسة إدارة الشر والعدوان، فإن الوقوف مع غزة – قبل أن يكون نجدة لشقيق أو استجابة لنداء إنساني عاجل- هو حتمية إستراتيجية ورهان قومي وحاجة سياسية وواجب شرعي، وعلى الشارع الرسمي العربي- الناظر إلى الخلف باستمرار- أن يتخلص من عاهة الخرس والصمم والعماء تجاه المسألة الفلسطينية، وعلى الشارع الشعبي العربي- الذي تحرك في حياء- ألا يركن إلى ظل أنظمة لا حول له ولا قوة عليها، لأنه الأقوى وإلا لاحقته لعنة الله والتاريخ كما لحقت أقواما قبله، فالفلسطينيون لا يطلبون َمن يقاتل معهم أو بدلهم، إنما يرجون أن يتركهم عرب الذل والهوان يحاربون- وقد تجاوزوا خلافاتهم- بكل أخلاق الحرب وقيمها، وليعش- في سباته وحياده المخزي- أصحاب الجلالة والسمو والفخامة ممن لم تصل إلى فضائياتهم الراقصة العارية أخبار الموت في غزة أو ممن انقطعت عنهم الكهرباء فلم يروا ما تبثه على مدار الساعة شاشات العالم من تدمير وتخريب وتقتيل للعرب والمسلمين ابتداء من غزة، وقبل ذلك وبعده لا نملك نحن الضعاف إلا أن نقول لإخواننا المرابطين الصامدين : صبرا آل غزة فإن النصر آت ...