ما الذي يجري في هذه البقعة الصغيرة من فلسطين الصغيرة بحجمها في جغرافيا الأمة الكبيرة برمزيتها..؟ ما الذي يجري لعقل الأمة وضميرها وهي ترى إحدى قلاعها تهدم حجرا حجرا وصواريخ العدو الفاشي تتهاطل على رؤوس الأبرياء المشردين من قراهم وبلداتهم تحصد منهم بالمئات وتصيب الآلاف.. من لغزة هاشم وطائرات العدو الهمجي تصم الآذان وقذائفه تمزق الأجساد وتحرق البيوت، ودباباته تقف على المشارف تمد بمدفعيتها الطويلة متحدية الجميع..؟ ما الذي يحدث؟ ألهذا الحد تعايشنا مع الهوان والقهر والإذلال..؟!!! لكي نفهم ماذا يحدث، من الضروري رؤية المشهد بكل أطرافه وارتباط الجميع أو افتراقه في صياغة هذا الواقع الذي يأخذ في التأزيم التصاعدي الى درجة لم تعد محتملة على الصعيد الإنساني. الموقف الأمريكي والأوروبيفي محاولاتها الدؤوبة لتثبيت الأمن في المنطقة وتنفيذ مخططاتها الأمنية بشأن الصراع الدائر في فلسطين، أدرجت الإدارة الأمريكية بندا ثابتا في كل صيغ التسوية التي طرحتها وهي القضاء على الإرهاب وتفكيك المنظمات الفلسطينية المسلحة.. وفي الطبعة الاخيرة للتسوية تلك المسماة خارطة الطريق المعدلة حسب شروط شارون، تشترط الإدارة الأمريكية أنه لابد من القضاء على المنظمات الارهابية والمقصود هنا حماس والجهاد والأجنحة العسكرية ككتائب شهداء الاقصى والمقاومة الشعبية وكتائب أبو علي مصطفى وغيرها.. وذلك إذا أراد الفلسطينيون ان يدخلوا المربع السياسي وأن يتم الاعتراف بهم كشريك سياسي.. وعملت أمريكا منذ بداية عهدة بوش الابن بحرب واضحة ضد القوى الإسلامية الفلسطينية في سياق حملتها العالمية ضد ما تطلق عليه مصطلح الارهاب الاسلامي.. وعندما سكتت عن مشاركة حماس في الانتخابات التشريعية الفلسطينية إنما فعلت ذلك من أجل احتواء حماس وإدخالها مربع التنازلات ثمنا لدخولها لعبة الديمقراطية وجنيها مكتسبات تفرزها نتائج العملية الانتخابية.الموقف الأوربي الى حد بعيد يتراوح بين يمين الموقف الأمريكي ويساره، وهو في كل الاحوال يكون دوما منفذا للسياسة الأمريكية الخاصة بالملف الفلسطيني، لاسيما إذا ظهر معامل المقاومة الاسلامية.. وانتظر الأوربيون تصرفات حماس بعد النتائج الانتخابية ليحددوا موقفهم، وبدأت صيغ الكلام المناسب تتهاطل على قادة حماس من قبل المبعوثين الاجانب التي غصت بهم غزة بعد نتائج الانتخابات والذين توزعوا على مجموعات متخصصة في علم الاجتماع وعلم النفس الاجتماعي والأمن وغيره..إلا أن الامر لم يكن يسير في اتجاه تعاطي حماس في العمق مع السياق الأمريكي الأوربي مما نتج عنه إيقاف المساعدات الدولية عن الفلسطينيين، وعند ذكر الدولية ينبغي ادراج المساعدات العربية.. ولم يعترف بحكومة حماس ولم يعترف بالمجلس التشريعي الذي فازت حماس باغلبية مقاعده.. وتصاعد الهجوم على الحكومة ومن ثم على حكومة الوحدة الوطنية وجاءت الخطوات الاخيرة لإسقاط حكومة حماس او إضعافها على الاقل.. وبعد مؤتمر أنابوليس كان واضحا ان هناك قرار أمريكي أوروبي بتحجيم حماس الى أحد مستويين، إما الى درجة قبولها بالشروط الامريكية او الى حد أن تكون قوة هامشية. الموقف الإسرائيليكان مطلب إسرائيل الرئيسي من الوفد الأمني الفلسطيني المفاوض في باريس قبيل توقيع صفقة أوسلو سنة 1993 الانتهاء من الحركات الإسلامية الفلسطينية.. واستمر التضييق على الحركات الاسلامية الفلسطينية اكثر من ستة اعوام من قبل أجهزة الامن الفلسطينية إلا ان اندلاع انتفاضة الاقصى بعد فشل عملية التسوية واكتشاف الفلسطينيين أن إسرائيل تأخذ كل شيء ولا تتنازل عن شيء حقيقي.. اندلعت الانتفاضة الاخيرة وكان للحركة الاسلامية دور متميز في المقاومة، فكان شرط القضاء على عنف الحركات الاسلامية شرطا أساسيا للسياسة الاسرائيلية في كل لقاء يتم.. قبلت إسرائيل على مضض نصائح الأمريكان بضرورة مشاركة حماس في الانتخابات وكان المستوى الأمني الاسرائيلي يدرك اكثر من غيره أن حركة فتح تعيش حالة فوضى وتشظي وانقسامات بين الأجهزة الأمنية التي وجهت لها إسرائيل ضربات قوية، بالإضافة الى ترهلها وفسادها الشنيع وسوء سمعتها.. وهذا كان يعني كما قال (فركش) وهو مسؤول أمني إسرائيلي كبير: "إن يوم 26 يناير أي اليوم الذي يعقب الانتخابات هو يوم جنازة فتح". إلا أن إسرائيل وجدت في فوز حماس فرصتها السياسية، مستفيدة إلى ابعد حد من المناخ الدولي الذي صنعته السياسة الأمريكية في الحرب على الإرهاب الإسلامي.. فمنذ البداية خرجت الأصوات عالية من إسرائيل بأن لإسرائيل شروطا لقبول حكومة حماس، أولها الاعتراف بشرعية الدولة العبرية والإقرار بأمن إسرائيل، وكان هذا هو المطلب الأساس للغرب كله.. لم تمهل إسرائيل حماس كثيرا فشنّت حملة اعتقالات واسعة طالت وزراءها وأعضاءها في المجلس التشريعي جميعا الذين يقطنون في الضفة الغربية، الامر الذي احدث هزة في حجم حماس بالتشريعي.. كما ضيقت على تحركات حماس بشكل عام. راقبت اسرائيل الوضع الفلسطيني الداخلي ووجهته الى حد كبير.. فقد حققت نجاحا كبيرا في صناعة موقف دولي تجاه الفلسطينيين يشترط جملة شروط سياسية وأمنية عليهم تنفيذها، الامر الذي جعل من الحصار الدولي على الفلسطينيين امرا محكما.. وعندما حسمت حماس أمرها ضد الأجهزة الأمنية التابعة لفتح في غزة وباتت السيطرة لها كاملة على القطاع، وجدت إسرائيل في هذا الوضع حالة نموذجية إذ أن أي موقف فلسطيني من الآن فصاعدا سيكون ضعيفا.. وستبتز اسرائيل الطرف الفلسطيني المفاوض بعد أن كشفت أحداث غزة عدم قدرته على السيطرة وستدفعه الى الخروج مكسورا من المربع السياسي الذي ناضل من اجل دخوله الى درجة تفريطه بالرئيس ياسر عرفات عندما كان التنازل عن ياسر عرفات شرطا لإعادة المفاوض الفلسطيني شريكا.. وستضغط على غزة وحماس الى درجة فرض الحصار الشامل الذي يضعف سلطانها ويرهق الشعب كما قال موشيه يالون، أحد رجالات الامن والسياسة في إسرائيل، إنه لابد من (كيّ الوعي الفلسطيني)... لم يكن أنابوليس بالنسبة لإسرائيل أكثر من فرصة لاحتدام النزاع في الساحة الفلسطينية ولم تقدم إسرائيل من خلال المفاوضات المكوكية مع السلطة الفلسطينية قبل أنابوليس وبعده شيئا على أي مستوى من المستويات العالقة والعاجلة. الآن كانت المساعي تنصب من اجل عقد صفقات هدنة والإفراج عن شاليط الجندي الإسرائيلي والإفراج عن مئات المعتقلين الفلسطينيين وفتح المعابر.. إلا أن حماس حاولت أن يكون لها حضور في العملية وأن تصبح امرا واقعا رغم الحصار، فكان لابد من توجيه ضربات عنيفة تنسي حماس اشتراطاتها إزاء إسرائيل من خلال ممارسة الضغط بالقتل والتدمير.. فكانت هذه المذبحة عبارة عن كسب شروط جديدة لإسرائيل في صفقة امنية قادمة تتوسط من اجل إنجازها مصر. الموقف العربي الحديث هنا عن الموقف الرسمي العربي وبالذات موقف الأنظمة ذات التحسس من الموضوع الفلسطيني: مصر والسعودية وسوريا، ونتجاهل ذكر قطر ليس تحقيرا ولكن لأن دورها لا يعدو ناقل رسائل أمريكية.. الموقف المصري اتسم بالغموض اثر نتائج الانتخابات التشريعية الفلسطينية ولم تعترف المؤسسة المصرية بحكومة حماس الشرعية ولاقى وزراء حكومة حماس تهميشا بالغا من قبل الإدارة المصرية، في حين لم تنقطع الاتصالات على المستوى الأمني على اعتبار أن حماس حالة أمنية وليست حالة سياسية.. واستمرت هذه المراوحة مع تدخلات من حين إلى آخر لفضّ اشتباكات بين الطرفين الفلسطينيين اللذين بدءا في تنازع مسلح مشحون حول حدود صلاحيات الوزراء الجدد والشخصيات السياسية الجديدة.. إلا أن دخول السعودية على الخط أربك المصريين، حيث قامت المملكة السعودية بما لديها من ثقل وحضور على الطرفين الفلسطينيين بفرض اتفاقية بين الطرفين عرفت باتفاقية مكة تقضي بأن يشكل الطرفان حكومة وحدة وطنية وأن تلتزم قيادة المنظمة بالانتهاء مع حماس من الاتفاق على المشاركة السياسية في م .ت.ف.. واستطاعت المملكة السعودية ان تصبح بذلك الرقم واحد في الوضع الداخلي الفلسطيني. لم يرق الأمر للمصريين الذين وجدوا في ذلك تجاوزا لمجالهم الحيوي، حيث يرون ان الوضع الفلسطيني الداخلي شأن مصري.. وهكذا لم يتحمسوا على الاقل لنجاح هذه الاتفاقية وأدرك كثيرون في الساحة الفلسطينية ذلك الامر الذي شجع على الانهيار مجددا، ففهمت السعودية انه لا ينبغي التعاطي مع الشأن الفلسطيني بتجاوز مصر. أما سوريا فهو في موقع مختلف تكتيكيا، فسوريا كذلك ومنذ زمن طويل ترفض ان تبتعد عنها الورقة الفلسطينية وتعتبرها أحد أهم أوراق القوة بيدها وهي تفتح المجال لتحرك قيادة المقاومة الفلسطينية بشكل مريح، الامر الذي يمنحهم فرصة الانفكاك من الضغط الاقليمي الشرس في الأردن ومصر.. وهذا يمنح قيادة المقاومة هامش مناورة.. وهنا بالضبط تصبح عملية مساومة سوريا على الموقف من الوضع الداخلي الفلسطيني، وكلنا يتذكر كيف ألغت سوريا مؤتمرا للفصائل الفلسطينية مقابل دعوتها الى مؤتمر أنابولس وعدم تهميشها.منذ اسابيع تكون صيغة هدنة بين اسرائيل والفصائل الفلسطينية قد تم الانتهاء إليها بإشراف السيد عمر سليمان وزير المخابرات المصرية.. وهي اتفاقية تشمل عدة مواضيع امنية.. الا ان حماس تشبثت ببعض المطالب والشروط كأن لا يكون لإسرائيل أي اشراف على المعابر حتى عن بعد، وهنا اعطى النظام العربي اشارة خضراء لتأديب حماس وإرغامها على القبول بالصيغ المطروحة وهكذا فجأة!! تأجلت زيارة الوزير عمر سليمان الى اسرائيل أي تأجيل تنفيذ الهدنة لحال انتهاء العملية الإسرائيلية. الموقف الفلسطيني الرسميلقد واجهت السلطة في رام الله ما حدث في غزة بتفرد حماس على اعتبار انه يحررها من ضغط دولي كبير، وبالفعل اندفعت كل الجهات الدولية للترحيب بشرعية عباس والتواصل معه ومع حكومته التي أعلنها وفق مراسيم جديدة مست القانون الأساسي الفلسطيني.. وتدفقت الأموال على رام الله لتنشيط الأجهزة الأمنية للقيام بواجب القضاء على المقاومة العبثية، حسب اصطلاحات اركان الوزارة الجديدة التي شنّت حملة واسعة لإغلاق مئات المؤسسات الاجتماعية والتربوية التي تتبع من قريب او بعيد لحركة حماس، كما قامت باعتقالات واسعة ضد قيادات وكوادر من حماس. لقد شكل الحصار الشامل على غزة وعدم إحراز أي تقدم في المفاوضات مع الإسرائيليين اشد انواع الضغط المعنوي والسياسي على السلطة في رام الله، كما كان الإحراج من تزايد التعاطف الشعبي العربي والإسلامي والدولي مع غزة الى درجة ان سفير اسرائيل في الاتحاد الاوربي بعث برسالة انذار لساسة إسرائيل باحتمال قيام دول أوربية بفتح الاتصالات مع حركة حماس..كان السعي أخيرا إلى صيغة لفتح المعابر اشترط الرئيس الفلسطيني أن تتم بالمواصفات السابقة التي تحرم قيادات المقاومة من السفر والمغادرة، وتبقي لإسرائيل إشرافا امنيا على المعابر.. رفضت حركة حماس التي لم تسقط رغم الحصار بل سقطت مراهنات إسقاطها.. من هنا كان لابد من تعديل الشروط.. كما مثل عدم قبول السلطة كل المبادرات العربية للحوار المباشر مع حركة حماس وتشريكها في "م. ت. ف" وإصرار عباس على قبول حماس بالاعتراف بإسرائيل والالتزام بأوسلو وكل الاتفاقيات الامنية والسياسية مع اسرائيل، كل ذلك حشر حركة حماس في زاوية الضغط الاقليمي والدولي، حيث يلقى الرئيس الفلسطيني دعما غير محدود في الساحة الفلسطينية من قبل الأمريكان..وهكذا تكون كل الاطراف عبارة عن عناصر استخدمتها اسرائيل في المجزرة الدائر رحاها على غزة وأهلها.. وتكون اسرائيل حققت أهدافا تكتيكية هامة وأخرى استراتيجية مستفيدة من مشاركة الجميع إما رضى أو غض طرف أو عمليا.إنها المسرحية الدموية واللعب بمقدرات الشعوب والجري خلف وعود الشيطان.. وكل المشتركين في المسرحية لن يأخذوا من الأمريكان حتى كلمة شكرا، وعندما يحين وقت التخلص من خدماتهم سيركلون خارج أرضية المسرح.