يتعجّب ضحايا الحرب على غزة كيف يزايد »الأشقاء«على حصار الأعداء، بإقامة حاجز فولاذي قد يضاف إلى أهرامات مصر العجيبة، يعلو بعاره إلى السماء ويخفي غدره تحت الأرض، ويحوّل الشقيق إلى سجّان أجير لدى عدوّ الأمة، ُيحكم قبضته على أكبر سجن مفتوح يحيط به العدو من كل جانب، وتبدو مصر تحت جدارها متناهبة الصغر كخيمة لأعراب تاهوا في فيافي الصحراء ! احتفلت مصر الرسمية بذكريين مهمتين في حياة الأمة ومهينتين لها: الذكرى الثانية لبدء حصار غزة وتجويعها، والذكرى الأولى لدكها ومحاولة تدميرها من طرف النازيين الجدد، تم »الاحتفال« إذن بطريقة أقل ما يقال فيها إنها تدعو إلى الاستغراب والحزن معا، وتؤكد أن النظام المصري مصرّ على الجنوح بمصر بعيدا عما يدّعيه من أنه يحمل همّ القضايا العربية، بل يستنكر كل الأصوات الصادقة التي تدعوه إلى مراجعة حساباته بعد أكثر من ثلاثين عاما من الانحياز إلى الطرح الصهيوني على حساب شعبه وأمته دون مقابل، وبلا حياء يقول: لا يزايد أحد علينا في حماية العروبة التي سنظل نحمل لواءها ! ولعل أبرز مظاهر الدفاع عنها من طرفه - مما يدعو للضحك- يتجلى في إقامته أغرب حاجز تشهده البشرية في تاريخ انتكاسة بعض شعوبها، يشهره شقيق في وجه شقيقه، تاركا بقية حدوده مفتوحة على مصراعيها أمام عدو شعبه التاريخي، ولعله السمة الأبرز في احتفاله بالذكريين المذكورتين . . شرّعت الإدارة الصهيونية قبل أكثر من عامين من الآن لحصار غزة، بعد أن اختار الشعب الفلسطيني- وطبقا للطرق الديمقراطية المعمول بها في الغرب- مشروع حركة حماس لاستعادة الدولة الفلسطينية بكل مقوماتها، ومن يومها شنت إدارة الاحتلال حربا اقتصادية ونفسية وإعلامية ودبلوماسية على الفلسطينيين لم تكن متكافئة، من أجل فرض إرادة المحتل عليهم وتركيعهم وإدخالهم إلى بيت الطاعة - الذي سبقهم إليه »أشقاؤهم« - أو إفنائهم عن آخرهم، ولمّا لم تستطع بذلك الحصار البغيض الجائر تحقيق أهدافها، لجأت إلى وسيلة اعتقدت أنها ستحسم الأمر نهائيا، فقامت بحرب إبادة تدميرية لم تر البشرية أبشع منها ولا أهمج، استعملت فيها كل محرّم لم تجرّبه قبلا من أسلحة الدمار الشامل، دكّت الحاضر بشكل أرعب إلى حد الشلل، حتى بدا لها أنها أنهت المستقبل الفلسطيني والعربي الحر إلى الأبد، ومرة أخرى لم ينجح مسعاها بقدر ما فضحها أمام العالم، وزاد في عدد الناقمين عليها مما جعل زعماءها يتنقلون كاللصوص خفية بين الدول، مخافة المتابعة القضائية التي أصبحت الشعوب الأوروبية لا تتحرج في ملاحقتهم بها، غير أنهم وجدوا نصيرا لهم في مصر السياسية للأسف . شاركت مصر السياسية مع الظالمين- غرْبا وعرَبا- في خنق غزة، من خلال أسوأ حصار وأبشعه في التاريخ البشري، وإن كان يشبه حصار جاهلية قريش في بداية البعثة المحمدية، إلا أنه يختلف عنه من حيث المواقف منه والفاعلون فيه، فقد كان عرب ذلك الزمان أكثر نخوة وعزة وشرفا وصدقا، عندما هبّوا- وقد عزّ عليهم ما يجري لإخوانهم في شعاب مكة ووهادها- وفرضوا على أصحاب الحصار ضرورة رفعه، ربما كان أولائك قبل أن يوجد الصمّ البكْم العمْي الذين لا يبصرون، ممن ذكرهم القرآن الكريم ويكونون اليوم قد تكاثروا، وراحت مصر »الشقيقة« تلاحق المتسللين من الغزاويين الذين يهرّبون بعض الطعام وقليلا من الدواء إلى ذويهم المسجونين في غزة، وعندما ضاقت بهم المنافذ البرية لجأوا إلى »بناء« طرق تحت الأرض، أكلت منهم ما أكلت، ولاحقت مصر»الشقيقة« الباقين، كلما اكتشفت نفقا به أشخاص يتحرّكون، ملأته غازا قاتلا فيختنق مَن بداخله ويموت على الفور، وبذلك تكون توّلت أيضا أمر مَن أخطأته الطائرات الصهيونية المقاتلة المقنبلة، وتكون مصر الرسمية أقرب إلى إسرائيل من جميع من هم في غزة أو خارجها من عرب ومسلمين، وإذا كانت أمريكا- وهي راعية اللقيط المدلل- تبرر نكوص إدارة الاحتلال عن كل التزاماتها الدولية والثنائية السابقة، بالخوف من إسقاط الحكومة اليمينية الأكثر تطرفا في تاريخ الحركة الصهيونية، فلمَ لا تضغط الحكومة المصرية- لو كانت صادقة وتحمل فعلا الهمّ العربي- بالموقف الشعبي المصري والعربي والإسلامي والأوروبي الحر الذي يجتاح العالم؟ إنها لم تفعل، ولكنها أشاحت بوجهها عن أهل غزة بإقامة جدار فولاذي يمتد إلى أكثر من عشرين مترا تحت الأرض، ليصد السابحين في أعماقها من أجل الحياة، الطامعين في نقل رغيف عيش إلى الجائعين، أو قليل من وصفة دواء طويلة للمرضى المحاصرين، وهي قبل هذا وبعده عمّقت ووسّعت مساحة الفقر في غزة، حيث أصبح أكثر من ثمانين بالمائة يعيشون على الإعانة الدولية، ويختطفهم المرض كل هنيهة إلى ساحة الموت التي مازالت تتسع بالقادمين إليها بفعل الحصار. مصر الرسمية تدعي أنها بحصارها هذا إنما »تحاصر« مؤامرة إسرائيلية تهدف إلى القضاء على الدولة الفلسطينية، فهل تريد إقامة دولة للأموات، أم مقبرة للأحياء في غزة على غرار المليون ونصف المليون من المصريين الذين يتقاسمون مع الأموات مساكنهم في قلب القاهرة؟ لقد زادت في تجميد الإمكانيات العربية وشلت قدرتها على السير نحو الانتصار في معركة تحمل هي نفسها لواءها ظلما وافتراء، مما أضعف مناعة المواطن في تحركه السلمي أو الثوري تجاه حقه المغتصب، وجعله يندفع إلى العنف المدمّر المرفوض دينيا وإنسانيا وحتى استراتيجيا، ولأن هذه ال»مصر« لم يعجبها بقاء الفلسطينيين أحياء رغم الحرب الإبادية التي شنت عليهم، ولم يرقها تشبثهم بالحياة في أعظم أسطورة صمود في التاريخ، فإنها راحت تحاصرهم بأكبر عملية تسييج منكَرة، وإن كانت قد بنت جدارها في قلوب العرب والمسلمين قبل أن يأذن لها الآمرون بالأمر بإنجازه على طول الحدود، وهي منزعجة جدا من كل الذين يساعدون الغزاويين، ولا تجد حرجا في تسميتهم بما تعتقد أنه سبّة تدينهم وهو مفخرة لهم، كالانتماء إلى ما أسمته بخلية حزب الله، ولكنها لا تقلق إطلاقا حينما يقتحم حدودَها صهاينة مكلفون بمهمة وتكتفي بإعادتهم إلى»الوطن«معززين مكرّمين، أما قادة الإجرام الصهيوني فهم في بلدهم الأول والثاني، يدخلون متى شاءوا ويخرجون حينما يريدون، وقد يكون راود المقيمَ في قصر عابدين بالقاهرة، ما كان راود أحد مؤسسي كيان التدمير والقتل عندما قال: أحلم أن أنام وأصحو فلا أجد غزة إلا وقد ابتلعها البحر واختفت إلى الأبد ! لم يكف الغزاويين أنهم حوصروا حتى في مواقدهم فلا يطبخون طعامهم- على تواضعه- إلا على الحطب والحشائش اليابسة بينما جيرانهم النازيون المغتصبون لجغرافيتهم وتاريخهم، يتدفئون بالغاز المصري الذي يأخذونه بأسعار رمزية من ورثة حكم قاهرة المعز، ولم تحرّك ساكنا المؤسسات الدينية ولا تلك التي تزعم أنها تمثل المجتمع المدني المصري الفاعل، بما يغيّر مسار الاتجاه الخاطئ لمصر الرسمية، باستثناء بعض الأصوات المبحوحة التي تركها النظام الرسمي العربي عمدا ليجعل منها عنوانا لديمقراطية يتبجح بها وهي لا تعدو إلا أن تكون ديمقراطية الواجهة، وكما لم تفعل شيئا من أجل رفع الحصار، فكذلك لم تقم بأي فعل يمنع جدار العار والكراهية والحقد من النمو، أو إدانته والتشهير بالآمرين بإقامته على الأقل، بل هناك صمت يدل على الرضى البيّن بما هو جاري، فاتحاد المحامين العرب - مثلا- والذي أحرق في وقت قريب سابق الراية الجزائرية بسبب مقابلة رياضية انهزم فيها الفريق المصري فقط، تجري أمامه ومنذ عام2007 جريمة حصار غزة، ولم يحرّك دعوى ضد مجهول، بالرغم من أن المجرم وشركاءه والمتسترين عليه والغاضين أبصارهم عن فظيع فعلته كلهم معلومون، ولا يبعدون عن مقر الاتحاد إلا بضعة أمتار معدودة، وقد يكون أعضاؤه جزءا من »شلة« الجريمة . إن الحصار- بالإضافة إلى كونه حربا مفتوحة- هو عملية ممنهجة لاغتيال المستقبل بعد تلويث الحاضر بكل فيروسات الانهزامية والذل والانبطاح، رد عليها المجتمع الحر بتنظيم قوافل إنسانية شجاعة عانت وما تزال على معبر الدخول المصري أكثر من معاناتها مع إدارة الكيان الصهيوني لو جعلتها معبرا لغزة، مع أن أصحابها أعلنوا منذ الوهلة الأولى أنهم مجرد ناقلين للحياة إلى حيث ينشر الموت سدوله على جغرافية غزة، فكانوا- وهم الغرباء- أقرب إلى الفلسطينيين من ذويهم على الضفة الجنوبية لهذه القطعة الثائرة التي لم ُيعرف عن أهلها هروبهم كما فعل غيرهم، إنما ظلوا متشبثين بأرضهم تشبثهم بالحياة التي يسعون بكل الوسائل إلى توريثها لمن يأتي بعدهم من أبنائهم، وقد أثبتت مصر الرسمية- بهذا السلوك- أنها ليست سوى كلب حراسة شرس لحماية الحركة الصهيونية التي تداهمها حتمية الفناء والزوال، أو هي في أحسن الحالات »روبو« كبير، تحرّكه القوى المعادية لمصالح العرب والمسلمين والإنسانية قاطبة، ولو كانت- أي مصر السياسية- قلب العروبة والإسلام كما يحاول أن يؤكد ناطقوها المتعددون في كل المناسبات وخارج أسوار الجدل فيما يجري للشعب الفلسطيني، ما كانت تفرض تأشيرات الدخول إلى مصر على المواطنين العرب والمسلمين، وتلغيها عن كثير من الأوروبيين الذين تعتقد أنهم أقرب إليها من هؤلاء، الذين تعتبر بعضهم برابرة متخلفين، وبعضهم الآخر بدوا محنطين أو مجرد تبّع لهلال شيعي، وبعضهم الثالث تبحث له عن تسمية لدى قاموس شتاميها وسبابيها المؤجّرين في الدكاكين الإعلامية، ولكن الذي نسيه هذا النظام ومن يدور في فلكه ومن يدعمه من الأقوياء الأغبياء، أن التاريخ أخبرنا أن كل حصار مهما كانت مبرراته وقوّته سينسف- أول ما ينسف- أولئك الذين يقفون خلف جداره ...