الانتخابات الرئاسية هذه المرة ليس فيها مجال للمفاجأة أو الإثارة، في السلطة أو في المعارضة الجميع يتصرفون وكأن الأمر مجرد إجراء شكلي لتجسيد القواعد التي أقرت بتعديل الدستور، وآلاف الموظفين الذين أرسلتهم الداخلية إلى بيوت الناس لإقناعهم بأهمية التصويت هم في النهاية جزء من هذا المجتمع الذي يعتقد أن الأمر لا يعنيه لدى السلطة مخاوف حقيقية من مقاطعة الانتخابات، فآخر انتخابات شهدتها الجزائر سجلت أدنى نسبة مشاركة منذ الاستقلال باعتراف الجميع، وكان أحد أسباب تحاشي عرض تعديل الدستور على الشعب مباشرة عن طريق الاستفتاء هو الخوف من عزوف الناخبين الذي قد يفسر سياسي على أنه رفض لاستمرار الرئيس بوتفليقة في الحكم، وأحد أسباب الخوف هو مستوى الشخصيات التي ستعلن ترشحها للانتخابات، فإعلان أحزاب المعارضة رفضها المشاركة يجعل بقية المشاركين يظهرون كأرانب مكلفين بتسخين سباق معروف النتائج سلفا، وبكل تأكيد فإنه إلى حد الآن لا يوجد مرشح يحظى بدعم حزب سياسي كبير كما حدث في انتخابات 2004 عندما كان علي بن فليس مرشحا في مواجهة بوتفليقة، وأمثال عبد الله طمين وعلي زغدود وفوزي رباعين أو حتى لويزة حنون وموسى تواتي لا يمكنهم إزعاج بوتفليقة في الانتخابات بأي حال من الأحوال، أما ترشح محمد السعيد، الذي يحاول أن يطرح نفسه كوريث للإبراهيمي أو حتى للتيار الإسلامي، فإنه يبدو محاولة لاستغلال الانتخابات للتأكد من القاعدة التي يمكن أن تنضم إلى حزبه الذي أعلن عن تأسيسه قبل أن يعلن ترشحه للانتخابات. عبد الله جاب الله يقول إن الانتخابات الرئاسية القادمة ربما تكون الأولى التي ستشهد غياب التيار الإسلامي، باعتبار أنه قرر عدم الترشح، في حين أعلنت حركة النهضة قرارا بالمقاطعة وبعدما فضلت حمس الالتزام بالتحالف الرئاسي الذي يدعم بوتفليقة، لكن الأهم في موقف جاب الله هو أنه لم يكن يمانع في دخول الانتخابات لو أن السلطة وافقت على إعادته إلى رئاسة حركة الإصلاح الوطني التي خسرها بعد معركة قانونية مريرة مع رفاقه السابقين الذين تحولوا إلى خصوم. كل الذين يقتربون من اللعبة الانتخابية مقتنعون تماما بنتيجتها، فلا أحد ينتظر حدوث معجزة، بوتفليقة سيبقى في مكانه، هذا ما تؤمن به أحزاب التحالف، والمترشحون الآخرون دون استثناء، لكن أهداف هؤلاء من المشاركة في الانتخابات تختلف، فالتحالف يعتبر أن بوتفليقة هو مرشحه، وأصل التحالف هو اتفاق على دعم الرئيس، وهناك مجموعة تعتبر أن الترشح للانتخابات يقدم فرصة للحصول على المال بكل بساطة، وهناك من يريد أن يجني المال ويتحول إلى نجم في آن، وآخرون يحاولون انتزاع مكاسب من السلطة كما أراد جاب الله أن يفعل لأنه يعلم أن السلطة أشد ما تكون سخاء في موسم الانتخابات، ويبدو أن هناك اتفاقا على شرعية ركوب موجة الانتخابات. في الجهة المقابلة أصبح نجاح الانتخابات مرتبطا بنسبة المشاركة في التصويت، وهذا يمر حتما عبر إقناع بعض الوجوه المألوفة بالترشح، ومع مرور الوقت بدأ يتقلص عدد الراغبين في المشاركة بما يضر بمصداقية العملية، ففي انتخابات 1999 كان لدينا سبعة مرشحين وكان من ضمنهم رموز تاريخية ورؤساء حكومات سابقون وقادة أحزاب لها وزنها على الساحة، وبعد خمسة أعوام كان الصراع ثنائيا بين بوتفليقة وبن فليس، وهذه المرة يبدو أن المشكلة الأكبر هي في إيجاد مرشحين يمكن تقديمهم للرأي العام كمؤشر على أن الانتخابات تتجاوز كونها مجرد إجراء شكلي، والملاحظة الأساسية هنا هي أن أغلب الشخصيات القادرة على المنافسة لا تعود إلى المشاركة مرة أخرى، وهذا يعني أن هؤلاء اقتنعوا بأن الانتخابات لا يمكن أن تؤدي إلا إلى تثبيت ما هو قائم على الأرض. لقد تم استنزاف مصداقية الانتخابات في نظر المواطنين، فمع مرور الوقت اقتنع الناس بأن الانتخابات لا يمكن أن تشكل مدخلا للتغيير، ويلتقي حول هذا الرأي رجال السياسة والنخب المثقفة وعامة المواطنين، والرسالة التي يبعث بها المقاطعون والصامتون والمتجاهلون واحدة ومفادها أن النتائج معروفة ولا داعي لإهدار المصداقية بالمشاركة، والذين يعلنون مشاركتهم هم من الصنف الذي ليس له ما يخسره على الإطلاق، أما الذين يرون أنفسهم مؤهلين لشغل المنصب فإنهم يريدون البقاء في الظل وانتظار مزيد من الوقت لعله يأتي من يطلب خدماتهم، بهذا يمكن أن نفسر سلوك رجل مثل علي بن فليس الذي لم نجد له أثرا على الساحة منذ خمسة أعوام، وقد يقترب من هذا الأسلوب بعض الشيء مولود حمروش أيضا، وهؤلاء يعتبرون أن حظوظهم في العودة ترتبط أساسا بالتزام الصمت ومراقبة ما يجري، وللأمانة كان هذا أسلوب بوتفليقة نفسه الذي قضى عشرين عاما بعيدا عن الأضواء وملتزما الصمت رغم الأحداث الجسام التي عاشتها البلاد في تلك الفترة. المشكلة لا تتعلق بمن سيحكم البلد في السنوات الخمس أو العشر القادمة، فهذه مسألة يمكن حسمها بسهولة كما حدث في مناسبات سابقة وفي أوضاع أكثر تعقيدا، بل المشكلة هي في إسقاط الانتخابات كوسيلة وحيدة للتداول على السلطة، فخلال السنوات الماضية أصبحت الانتخابات مجرد إجراء شكلي، وكان رد فعل الشارع هو مزيد من اللامبالاة ومن العزوف عن التصويت، ومع مرور الوقت لا يمكن لتغييب الحوار السياسي الحر والانتخابات المفتوحة إلا أن يدفع باتجاه البحث عن بدائل أخرى قد لا تكون عنيفة لكنها قد تشكل خطرا على سيادة الوطن ووحدته، والتوجه إلى الاستنجاد بالخارج لإرغام السلطة على الاستجابة لمطالب الانفتاح والحرية يمثل أحد الخيارات المطروحة وقد بادر سعيد سعدي إلى استعماله وقد يتبعه آخرون، ولن يكون من الحكمة في شيء الاعتماد على "تفهم" القوى الكبرى لتجاوز هذه المطالب، فالعالم يتغير بسرعة وكذلك التحالفات، والأهم من هذا هو أن درء المخاطر الخارجية عن البلد يتطلب أساسا تقوية الجبهة الداخلية من خلال نظام سياسي مفتوح وشفاف يعزز الشعور بالمشاركة والمسؤولية لدى جميع الجزائريين.