جورج غالاوي يشاء القدر أن لا تُفتح الحدود الجزائرية المغربية لأحد غير هذا الرجل؛ جورج غالاوي، ذلك المحارب من أجل القضايا الإسلامية والعربية. * * فالبلدان فتحا حدودهما له عندما أطلق "قافلة مريم" التي اتجهت العام 2002 من لندن إلى بغداد تضامنا مع الشعب العراقي أيام الحصار، واليوم يفتحان حدودهما لقافلة "غزّة"، بقيادة الرجل ذاته، ولعلّ أحدا لن يعترض إن سمّته الجماهير العربية والمسلمة "صاحب القافلتين". * إنه تاريخ مجيد لهذا الشهم، لم يبدأ من مريم ولن ينتهي بغزة مرورا بلبنان..تاريخ يستحق الوقوف والتحية، فيما يستحق تاريخ آخرين البصق على الوجه والضرب بالغائط..هذا فيما يُنتظر أن يكبُر المسؤولون في البلدين كِبر آمال شعبيهما، فيرفُسا "زوج بغال" تحت أقدام مجد مغاربي تليد، يُناطح أوروبا ويُجابه واشنطن، ويبعث بعضًا من عملاق طنجة-جاكرتا. * لم يعرف غالاوي في حياته قضية كما عرف القضية الفلسطينية، فهذا الأسكتلندي المولود سنة 54 لأسرة أيرلندية كاثوليكية متديّنة، حمل مثل جدّه "وليام والاس"، الكره العظيم لبريطانيا ولسياساتها المبنية على "فرّق تسد"، وهدم الآخر لبناء تاجِها. * جاءه شاب فلسطيني إلى بلدته داندي في بداية السبعينيات، أيام كان شابا غضا بدأ لتوّه النشاط في حزب العمال، وكانت المرة الأولى التي يرى فيها غالاوي مسلما أو عربيا. سأل الشاب غالاوي "كيف أوصِل قضية شعبي إلى البرلمان البريطاني؟" فانزوى به غالاوي إلى طاولة لساعتين واستمع إليه جيدا وهو يقص عليه مأساة شعب يملك أرضا، تحوّل بِرسم قلم بلفور إلى شعب لاجئ يبحث عن خبز وماء.. وعندما أنهى الشاب كلامه قال له غالاوي "سأحاول أن أوصل قضيتكم إلى هناك". * لقاء الساعتين ذاك احتلّ حياة غالاوي كلّها، وحوّله من مجرّد مستمع لشكوى من شاب، إلى حامل لأكبر قضية تحرّر في العالم منذ ذلك الحين، أي مذ كان عمره 21 سنة فقط والرجل اليوم في ال55، ولا يزال يحملها ويُدافع عنها. * كان أول عمل قام به غالاوي لصالح فلسطين في السبعينيات، أن اقترح على مجلس بلدته داندي رفع العلم الفلسطيني في البلدة، ووافق مجلس داندي على الاقتراح، ثم شارك غالاوي في مشروع لتوأمة بين داندي وبلدة نابلس هناك شمال قدس الأقداس في فلسطين، وفي العام 80 أنشأ مع زملائه "اتحاد أصدقاء فلسطين" وترأسه هو. * زار غالاوي الفلسطينيين في مخيماتهم ولم تفارق سمعه حكاياهم عن بلداتهم، وكان من أشدّ اللحظات وقعا في نفسه، مفاتيح بيوتهم التي كانوا يحملونها في أيديهم، إذ لا تزال شنشنتُها تقرع أسماعه، وكأنها تحدّثُه- أو تريد- هي الأخرى.. * وراح غالاوي يطوف العالم نصرة لقضية قال عنها ذات مرّة لطلبة فلسطينيين "إنها قريبة إلى قلبي، وحتى لو متّ، فسوف ترونها محفورة في قلبي.." وقال مرّة " إنني اعتبر نفسي فلسطينيا مع أني غير موجود في فلسطين، ولكن فلسطين دائما في قلبي ووجداني ". * زار غالاوي الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات والتقاه كم من مرة، وعادهُ في حصاره عندما انفض من حوله الزعماء والرؤساء والملوك العرب وتركوه وحده بعد أن هدّم شارون عليه المقاطعة وتركه من دون ماء ولا كهرباء.. ورافقه في رحلته الأخيرة للعلاج في فرنسا حيثُ قضى عرفات. وعندما رحل الزعيم الفلسطيني قال غالاوي "إسرائيل قتلته..إنني أطالب بالتحقيق في موت الرئيس عرفات"، وشارك غالاوي في حملة المليون توقيع التي تطالب بالتحقيق في موت عرفات. * لم يتوقف غالاوي عند هذه الحدود، ووصل إلى حدود الإشارة لوجود خونة حوله قال بأن إسرائيل وضعتهم لقتله.. وفجّر قنبلة عندما قال "إن وزير الخارجية الفلسطيني ناصر القدوة، أكّد لي أن الرئيس عرفات قد سُمّم". وناصر القدوة هو ابن أخت عرفات. * التفت غالاوي بعد موت عرفات إلى الرئيس الفلسطيني الجديد أبو مازن وقال له " أحذّرك سيادة الرئيس من أي انجرار إلى التوقيع على اتفاقيات سبق ولم يوقع عليها الرئيس ياسر عرفات في واشنطن، والذي خسر الكثير من أجلها الشهيد عرفات بمقاطعته ومحاصرته." وكأن غالاوي خشي على الشعب الفلسطيني من بعد رحيل عرفات. * نأى غالاوي بنفسه كلّ النأي عن مواقف بلاده من القضايا الإسلامية والعربية، حيث اعتذر للفلسطينيين يوما عن وعد بلفور الذي مكّن اليهود من إقامة دولة على أنقاض أرض شعب فلسطين، واعتبر اعتذاره واجبا لا منّة منه، وتأثر كثيرا وهو يقول "ما آسفُ لها حقا اليوم هو عدم تحرر الأراضي وعدم عودة الفلسطينيين إليها". * وتعدّدت المناسبات التي كان غالاوي يردّد فيها اعتذاراته للفلسطينيين وللمسلمين والعرب، وكان في كلّ مرة يكاد يستجديهم ويستعطفهم حتى ليبدو من نبرة كلامه أنه هو من وقّع وعد بلفور!! * قال يوما في مهرجان تضامني في البحرين مع الفلسطينيين هاجيا البرلمان البريطاني " جئتكم من داخل مبنى البرلمان البريطاني، مصدر المصائب على العرب والمسلمين، حيث كان سايكس وبيكو يقسمان الوطن العربي بالمسطرة وقلم الرصاص، بعد أن كان - كما قالها بالعربية: "شعبٌ عربي واحد من مراكش للبحرين"- وواصل قائلا" جئتكُم من الغرفة التي وقع فيها بلفور وعده المشئوم بإقامة وطن ليهود العالم على أرض فلسطين" وأضاف سائقا معادلة رائعة هي أحسن ما سمع العالم إلى اليوم عن أكل حقوق الشعوب، لقد قال: "إنّ الشعب الأول وعد الشعب الثاني بإقامة وطن له على أرض الشعب الثالث". * وجاءت الحرب على العراق في العام 2003، ليظهر غالاوي عربيا أكثر من العرب ومُسلما أكثر من المسلمين في الالتفاف حول قضاياهم، وكيف لا وهو القائل "أحيانا أشعر بأنني عربي أكثر من العرب أنفسهم". * زار غالاوي العراق العام 94، وهناك رأى الطفلة الصغيرة مريم المصابة بسرطان الدم جراء الأسلحة الكيماوية التي ضرب بها العراق، وقرر الرجل أن يأخذ مريم معه إلى بريطانيا وتكفّل بعلاجها هناك. * ومن مريم راودته فكرة القافلة الإنسانية التي خطت رحلة من "بيغ بن إلى بغداد" عبرت خلالها أراضي 11 دولة وحملت القافلة اسم "مريم"، ولم تكن القافلة سوى الحافلة البريطانية الحمراء الشهيرة ذات الطابقين وعلى متنها 11 شخصية بريطانية، وكانت القافلة إدانة للحصار الذي فرضه مجلس الأمن على العراق بوسوسة أمريكية بريطانية، وعلق غالاوي على الحصار الغربي الذي مزّق الشعب العراقي قائلا "لقد قتل هذا الحصار أكثر مما قتله بول بوت من الكمبوديين"، وبول بوت هذا هو عسكري كمبودي حكم البلاد أربع سنوات بالحديد والنار، وارتكب مجازر جماعية فظيعة قتل فيها أزيد من مليون ونصف المليون كمبودي. * وإكبارا لهذه القافلة مريم، قافلة العزة والكرامة، فَتحت الجزائر والمغرب حدودهما المغلقة منذ 1994، فيما تتالت قوافل الذلّ والمهانة الرسمية العربية.. ثمّ أُغلقت الحدود بعدها، ولم يعرف البلدان بعدها تلاقيا، اللهم إلا عبر المهربين وبياعي السموم الذين سوّدوا صورة العملاقين، والذين لم يكونوا سوى نتيجة حتميّة لتفكير سياسي سقيم. * وقبل المرور إلى غزة لا بُد أن تَطرب أسماعكم لما حدث لغالاوي بعد وقوفه في وجه الحرب على العراق، لان القصة تستحق أن تُسمع بل، وأن تُحفظ في خزائن التاريخ الذهبية، تماما مثلما تستحق قصص آخرين أن ترمى في زنازين التاريخ الصدئة ومراحيضه النتنة. * القصة هي أن غالاوي طُرد من حزب العمال الذي ناضل فيه 34 عاما من عمره.. طرده رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير العام 2003 بعد أن ألّب عليه أركان العُمّال في الحكومة. طُرد غالاوي بتهمة الإساءة للحكومة ولسمعة حزب العمال بعد أن وصف الحزب ب "آلة كذب توني بلير"، وصعّد غالاوي هجومه أكثر على بلير عندما طالب الجنود البريطانيين بأن يرفضوا تنفيذ أوامر الحكومة". * غير أن الطرد لم يفتّ من عضُد غالاوي وعزيمته، فأسس في العام 2005 حزب "الاحترام" وكان اسما يليق برجل مُحترم من طراز السيد غالاوي..وفاز بفضله بمقعد في البرلمان البريطاني ومن هناك وقف مخاطبا بلير "لقد عدُت يا بلير..من أجل العراق عُدت". وعشية فوزه ذاك صارح الصحفيين الفلسطينيين قائلا "عاداني أناس هم أعداؤكم، وأصبح عدوي هو عدوكم لأنني أدافع عن الحق، وأنا معكم، و لم أندم لأنني معكم ومع الحق". * وعبثا حاول الأمريكيون أن يلفّقوا له تهمة الاستفادة من رشاوى من الرئيس العراقي الراحل صدام حسين من اجل السعي لرفه الحصار عن العراق والتلاعب بالبرلمان البريطاني، وتعرّض غالاوي لمساءلة في مجلس الشيوخ الأمريكي، لكن الشهم بقي واقفا، وصفع مجلس شيوخ أمريكا هناك في واشنطن وخرج وسط تصفيقات كثيرين منهم. * ثم جاءت غزة الفاضحة، لتفضح حقيقة وجود قوافل عزة وكرامة وقوافل ذلّ ومهانة..ففيما عجز النظام الرسمي العربي والإسلامي عن إطلاق قوافل الأخوة العربية والإسلامية إلى غزة، جاء غالاوي من هناك من أقصى الغرب المسيحي ليُعيد الكرّة بقافلة "خطّ الحياة من بريطانيا إلى أهالي غزة"، ولكَم تمنيناها أن تكون قافلة "خطّ الحياة من طنجة إلى غزة" أو قافلة "خط الحياة من جاكرتا على غزة"..أو قافلة من أي بلد عربي أو مسلم..لكنّ غزة قرّرت أن تفضح بني يعرُب والمُتمسلمين..أما المُستعرِب غالاوي فلقد رفعته غزة عاليا على أكتاف جلود أطفالها وعلى هامات رشاشات مجاهديها وعلى بسامات شهدائها..نعم أيها السادة، لقد غدا غالاوي عربيا رغم إفرنجيته، وغدا العرب والمسلمون مُستهودين رغم إصرارهم على أنهم من سلالة ابن قحطان. * مائة وعشر مرْكبات انطلقت من بريطانيا إلى غزة، وفي طريقها رماها شعبنا في المغرب وأهلنا في الجزائر وإخوتنا في تونس وجيراننا في ليبيا وأحبتنا في مصر بورود الشرف وبمياه الحياة، وكان في كل عجلة منها بركة تبعث لفلسطين من نهرها إلى بحرها، أشواق شعوب تاقت جباههم إلى التمسّح بأرض القدس وبقِبلة مسرى سيد النبيين الأولى. * عودا إلى غالاوي أيام الحرب "الإسرائيلية" على لبنان قبل عامين، فهناك أبلى غالاوي بلاء لا يقل مضاء عما أبلاء أشاوس حزب الله في الميدان، وكان الإعلام ميدان غالاوي لوحده. * لقد مسح غالاوي الأرض بوجه المراسلة "الإسرائيلية" لفضائية سكاي نيوز الأمريكية من "تل أبيب". * سألت المراسلة غالاوي عبر الهواء عن حزب الله وعن طموحاته وعن اختطافه لجنود "إسرائيليين"، فردّ على أسئلتها هكذا "ما أسخف هذه الأسئلة التي تطرحينها، بل ما أسخفك أنت..الكذب يظهر على تعابير وجهك..أنتم الصهاينة لا تفهمون إلا لغة الدم..هل بإمكانك أن تعطيني اسم شخص واحد من الأسرة الفلسطينية التي قتلتها إسرائيل على شواطئ غزة في فلسطين، أكيد أنت لا تعرفين أحدا منهم.. لكنّك في المقابل تعرفين كل شيء عن الجنديّين الأسيرين.." وبدا التردد بل والخوف على مُحيّا المراسلة التي لابد من أنها ندمت على استضافة شخص سْحنتُه إفرنجية، لكن لسانه عربي مسلم، وارتفع صوتها فيما طغى صوت على صوتها وعلى صوت الصواريخ التي كانت تدكّ أطفال قانا، وختم حديثه معها بالقول "سأقول لك ما هي مشكلتكم، مشكلتكم أنكم تعتبرون الدماء الإسرائيلية أغلى من الدماء الفلسطينية واللبنانية..هذه هي مشكلتكم". * وفي لندن نظّم الشّهم في 2006 مُظاهرة بعنوان "إرفعوا أيديكم عن لبنان" شارك فيها مئات الآلاف، وفيها وصف غالاوي "إسرائيل" بالدولة الإرهابية ووصف الحكام العرب بالخونة الفاسدين. * لكن هجومه علي الحكام العرب أيّامَ غزّة كان أليما جدا. ففي إحدى خطبه الموجهة للشعبين الفلسطيني والمصري أمام فلسطينيي وعرب بريطانيا قال غالاوي " الطريق إلى تحرير القدس يمر عبر القاهرة، وليس هناك من طريق آخر..فعلى الشعوب العربية وخصوصا الشعب المصري العظيم الإطاحة بالمرتزقة والخونة والعملاء من ملوك وقادة العرب..حان الأوان يا شعب مصر العظيم..مصر عبد الناصر..مصر 73..الإطاحة بهذا الظالم الدكتاتور..اسم مصر العظيم يُجر عبر التراب والطين خلال حكم وبسياسة هذا الحاكم الفاسد العميل". * أما فوز بارك أوباما بالرئاسة في الولاياتالمتحدة، فقد جعل غالاوي أكثر حرية وبعث فيه الأمل للعمل من أجل التأثير على الرأي العام الأمريكي وعلى الإدارة الجديدة هناك، لتغيّر من سياستها تجاه الفلسطينيين خصوصا والعرب والمسلمين عموما، بل لقد قال غالاوي "بإمكاننا تجنيد أوباما لصالحنا".. * قال صاحب القافلتين بأنه سيقوم بجولة في الولاياتالمتحدة في شهر مارس الداخل سمّاها "جولة فلسطين".."سأقنع الأمريكيين بعدالة القضية الفلسطينية حتى يضغطوا على حكومتهم الجديدة..أوباما استطاع أن يهزم أعداء العرب في تلكم الانتخابات". * وسرد غالاوي قصة أوباما مع الراحل العربي الفلسطيني الكبير إدوارد سعيد قائلا "كان أوباما يتناول الغداء بانتظام مع الراحل الفلسطيني الكبير الدكتور إدوار سعيد، فهو يعرف القضية الفلسطينية جيدا إذا". * ما فتئ غالاوي يهاجم الأنظمة العربية ويكشفها في كل مناسبة وبوقائع موثّقة، يقول صاحب حزب الاحترام "علي أن أقول أنّ جولتي المقبلة في الولاياتالمتحدة تهدف إلى تحسيس الأمريكيين بعدالة القضية الفلسطينية، ومن أجل ذلك قررت أن أُنتِج فلما سميته فلسطين المفتاح، لقد جمعت أموالا لكنها تبقى زهيدة جدا..حيث لم أنجح في إقناع أية حكومة عربية أو أغنياء العرب من أجل أن يعطونا مالا لننتج الفلم..لكنني سأسعى بكل السبل لجمع المال اللازم". * لقد استطاع غالاوي "المستعرب الشهم صاحب القافلتين" أن يُشرّح النفسية العربية في كلمات قليلة جدا عكست معرفته العميقة بهذه الشعوب، حيث قال "كلّهم يعتقدون بأن كل شيء مقرر سلفا وأن العدو اكبر منهم..هذا ما يقولونه لي كلما التقيتهم"، وتلك مصيبتهم يا سيد غالاوي..تلك مصيبتهم، ولكنّهم على بعضهم أسود، ولعلّك تعرف ذلك جيدا أيضا. * في النهاية، لم يبق سوى أن نأمل بأن تُفتح الحدود الجزائرية المغربية، فالكل تشرئبّ أعناقه لرؤيتها كذلك، وهذا جورج غالاوي قد قال وهو هنا في الجزائر بأنه يتمنّى أن يشهد فتح الحدود بين الجارين الكبيرين، فهلاّ فُتحت الحدود..هلاّ فُتِحت الحدود..هلاّ فُتحت الحدود..