من يستطيع إقناع أبناء وبنات مدينة الجزائر بأن البياض هو الصفة التي كانت توصف بها مدينتهم، وقد أصبحت المدينة وناسها عابسين، معبسين، مؤمنين بأن القوى الخارقة التي كثيرا ما كانت تبدل أقدار شخصيات ألف ليلة وليلة قادرة على التصدي للجن الذي حول بياض الجزائر إلى عبوس؟ لقد حاول السندباد الصغير رشيد القسنطيني اجتثاث عبوس الروح الذي خيم على مدينته وبلده، وراح يبذر التسليات الفكاهية المطعمة بالحكمة ومكارم الأخلاق، فمات دون أن تغير روح الناس لباسها العبوس• ولن أنسى ما حييت الصورة التي رسمها عمي علي سليماني أحد شيوخ القصة للنهاية المأساوية لفنان الشعب الكبير رشيد القسنطيني قال لي عمي علي بالحرف الواحد: رشيد القسنطيني مات بالسموكينغ الّلي يمارس فيه المسرح مزفت• إن المصير المزفت لم يكن حكرا على رشيد القسنطيني الذي حاول جاهدا الإبقاء على روح شعبه ناصعة تحت "ليل الاستعمار" كما يصف الرئيس فرحات عباس فترة الاستعمار• ولا أعتقد أن مصير شاعر الثورة مفدي زكريا الذي يقول عنه عمي علي القصباوي :منه تعلمنا الوطنية• ومن منا يذكر المناضل الكبير شباح مكي الأوراسي، أحد الذين ساهموا في إنشاء حزب نجم شمال إفريقيا في العشرينيات من القرن الماضي، كما ساهم في إنشاء حزب الشعب، وهو الذي نظم وكون سياسيا وعسكريا المجموعة التي أطلقت شرارة الثورة في منطقة الأوراس• وليس صدفة أن نجد هذا المناضل الكبير الذي جمع بين نضال الحركة الوطنية والكفاح المسلح من أجل تحرير الوطن، ليس صدفة أن نجده يلتفت إلى الدور النضالي الذي يمكن أن يلعبه فن المسرح، وهكذا كانت الثقافة عامة والمسرح خاصة واحدة من مجالات نضاله الطويل• ولم يكثف شباح المكي بتقديم تسليات شعبية تطرد ليل العبوس عن روح شعبه، بل سعى إلى أن يكون مسرحه ناطقا بالعربية الفصحى التي كان يحاربها الاستعمار، وأن تكون شخصيات هذا المسرح شخصيات تاريخ الشعب المغيبة، أما ممثلو هذا المسرح فقد كانوا عمالا• ومن الطرائف التي لا زلت أذكرها ما كان يرويه شباح المكي، ومسعود صخري والطاهر بن عائشة، العضوان الآخران في فرقة الكوكب التمثيلي الجزائري التي كان يرأسها شباح المكي• مرة كانت الفرقة تريد تقديم مسرحية من مسرحياتها بمدينة من مدن الجنوب الشرقي الجزائري الذي كانت تعتبره السلطات الفرنسية منطقة عسكرية، أراد القائد العسكري أن يقدم للفرقة - بعد أن عرف أن العرض لا يتضمن أغاني وطنية - مساعدة في الأزياء• فأجابه أعضاء الجمعية الرواية تاريخية، لباسها هو اللباس الذي مازلنا نلسبه، وثيابنا هي نفسها تاريخية، ولسنا بحاجة إلى لباس آخر، فنحن أنفسنا قطعة تاريخية• هكذا تمثل مسرحيو الطبقة العاملة الجزائرية تمثيل شعبهم أثناء الحقبة الاستعمارية، فهل في صالة مسرح 2008 رجل مسرح يصور لنا حياة الجزائر التي كانت بيضاء في عيد العمال؟ أو بالأحرى مسكون بهاجس الكفاح الجمالي من أجل استعادتها لبياضها•