كانت نهاية الأسبوع الماضي من أسعد الأيام في حياة الجزائري إسماعيل عيسى، ابن مدينة الأربعاء الذي اعتقل وعذب من أجل أن يعترف بأنه الوسيط الأساسي بين الجماعة السلفية للدعوة والقتال وجماعات موريتانيا، إسماعيل عاد إلى الوطن ليلة الخميس إلى الجمعة الماضيين، بعد أن خاض ملحمة بطولية في محاكم موريتانيا، دافع فيها عن نفسه وتحول إلى محامٍ بارع، خطف الأضواء من أبرع المحامين في موريتانيا، "الشروق اليومي" عاشت مع أهله لحظات الفرحة وأجرت مقابلة مع إسماعيل كشف خلالها عن معلومات جديدة ظل يخفيها في موريتانيا. عندما قال له الجلادون في موريتانيا إنك الوسيط الأساسي بين ال "gspc" في الجزائر وبين الجماعات الموريتانية لم يفهم إسماعيل الكلمة وهو الذي لم يهتم يوما بتطور الجماعات الإرهابية واختلاف أسمائها حتى أنه لم يفهم المقصود ب "gspc"، هل هي جماعة معارضة في السينغال أم جهاز مخابرات غربي أم فرع من الموساد الإسرائيلي، وعندما رد إسماعيل على الجلادين متسائلا عن معنى الكلمة اعتقدوا أنه يستهزئ بهم... واليوم يقول إسماعيل إنه أصبح على اطلاع واسع بواقع الجماعات المسلحة، وكسب ذلك من خلال مجريات التحقيق وأطوار المحاكمة ومن خلال قراءاته في الصحف، وقد كان قبلها من أجهل الناس بأسماء الجماعات المسلحة، فقد كان يقسم وقته بين العمل والتدريس والمطالعة والرقية الشرعية، ولم تكن له اهتمامات خارج هذه الرباعية، وهنا يتحدث إسماعيل عن نكتة طالما حكاها لزملائه بالسجن، وهي أنه اضطر لتوجيه سؤال إلى أحد الحراس في مركز الشرطة بعد عملية الاستجواب فقال له "ما معنى كلمة gspc" فرد عليه الحارس إنها اختصار للجماعة السلفية للدعوة والقتال، حينها أدرك إسماعيل أنه في ورطة حقيقية. نلت البراءة مع أن التهم التي وجهت لك خطيرة جدا، هل توقعت الخروج من هذه الورطة؟ * أنا كنت أتوقع الإدانة ولو بيوم واحد، وهذا من أجل حفظ وجه ماء السلطات الموريتانية التي سجنتني لعامين وعذبتني دون وجه حق، لذلك كنت أتوقع إدانة رمزية، لأن البراءة تحفظ حقوق المتهم. لقد رافعت عن نفسي بما أملك من ملكة الإقناع وساعدني تكويني الديني في ذلك حيث توجهت بكلامي إلى القاضي مباشرة، وكان من سلالة الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث ذكرته بأنواع القضاة في الإسلام، ولما قلت له: أسأل الله أن يدخلك الجنة قال"آمين"... وقد تضامن معي كل الموريتانيين الحاضرين في القاعة وتفاعلوا مع كلامي، وعند النطق بالبراءة علت الزغاريد وكانت أجواء الفرحة لا توصف. من تلوم بخصوص ما تعرضت له من تعذيب وتنكيل؟ * إن هذا السلوك صدر عن بعض المفوضين في موريتانيا، ودخيل على الموريتانيين المعروفين بالتسامح، وقد فوجئوا جميعا لما حدث لي، ومنهم من لم يصدق أن ذلك حدث فعلا في موريتانيا، عندما نزلت في مطار هواري بومدين ليلة الخميس الماضي استقبلني جمع كبير من أفراد الجالية الموريتانية في الجزائر وعبروا عن فرحتهم بالبراءة واعتذروا باسم الشعب الموريتاني عن ما حدث لي على يد الجلادين. لكن كيف تفسر ما حدث لك على أيدي المفوض دامس، وهل تسامحه يوما ما؟ * يسكت... قبل الجلاد دامس كانت العملية مفبركة، أما الجلاد دامس فكان آلة للتعذيب، لأن العملية في البداية طالت العديد من الشيوخ والأئمة من بينهم العلامة محمد الحسن ولد ددو، الذي تدخل شيوخ كبار وعلماء من العالم الإسلامي لإطلاق سراحه، عندما اعتقل كل هؤلاء أرادوا اتهامهم بوجود علاقة بينهم وبين الجماعة السلفية للدعوة والقتال، لكن هذه العلاقة تحتاج إلى واسطة فأرادوا البحث عن جزائري يقوم بهذا الدور، ووجدوني ملائما كجزائري مقيم منذ مدة ولي علاقات واسعة ومتدين، وعندها بدأوا بتلفيق التهمة بأني الوسيط الأساسي بين الجماعة السلفية للدعوة والقتال وبين المشايخ في موريتانيا، وهذه المعلومات وصلتنا بعد فترة من الاعتقال. لقد كانوا يريدون تجريم الشيوخ في موريتانيا، وطلبوا مني أن أعترف بأني أمدهم ببيانات من الجزائر تحثهم على دعوة الشباب الموريتاني من أجل "الاكتتاب" أي الانخراط في صفوف الجماعة الإرهابية. أما موضوع المسامحة، فأنا أقول حسبي الله ونعم الوكيل... لن أسامح من عذبني ومن لفق التهمة لي، وسوف أتابعهم وأقاضيهم في المحاكم الموريتانية، وإن لم أستطع فسوف أقاضيهم في محكمة العدل الدولية بلاهاي. لقد أرسل لي دامس قبل عشرة أشهر محاميه ليساومني على الصور التي تظهر التعذيب، حيث طلب مني حرق الصور وتسليمه الفيلم مقابل 5 مليون أوقية، وهو ما يعادل 500 مليون سنتيم، فقلت له بالحرف الواحد "رفعت الأقلام وجفت الصحف" ولم أضف كلمة واحدة فوق هذا... هذا الكلام لم أستطع قوله في السجن وأقوله لأول مرة ل "الشروق اليومي" التي رافقتني في محنتي. عذبت كثيرا في مراكز الشرطة الموريتانية، من المؤكد أنك تحتفظ بذكريات مؤلمة أكثر من غيرها..؟ * قبل تعذيبي كانت هناك بعض الحيل، حيث أخذوني إلى مكان التعذيب، لأرى ما قد يحدث لي إذا لم أعترف، وعندما أنكرت ما نسب إلي بدأت المرحلة الخطيرة، وهي كشف العورات مع العبث فيها، وهي ذكرى مؤلمة كثيرا، وأنا لا أستحي من قول هذا لأنه حدث فعلا، وهو أمر خطير أن يحدث مثل هذا في البلاد العربية والإسلامية، بعد هذه المرحلة جاءت مرحلة التعذيب المباشر وجاء الجلاد "أحمد بن عمر" الملقب ب "قوبس" وهذا الشخص طريح الفراش وهو يعاني من مرض عضال لا أمل في الشفاء منه، وقد أرسل إلي والدته لأسامحه فرفضت وقلت لها "إن قلبي لا يزال أسود عليهم ولن أسامحه مهما حدث ولن أسامحه في الآخرة كذلك، لأن الإهانات التي تعرضت لها كانت كبيرة وكبيرة جدا". "قوبس" هذا كان يدخل أصابعه في لحيتي الكثيفة ويجرني في القاعة، ويقول لي: نحن نطبق القرآن في قوله تعالى "يا بن أم لا تأخذ بلحيتي" وهو استهزاء بالقرآن الكريم... كيف أسامح شخصا فعل هذا؟!! أما كبير الجلادين فهو "ديدي" فكان يقوم بتصرفات عنيفة أمامي وهو من قام بتقطيع جسدي بالمنشار ولا زالت آثار التقطيع إلى اليوم رغم مرور سنتين على التعذيب. ما سر شهرة المفوض "دامس" ولماذا ارتبط اسمه بقضيتك؟ * المفوض دامس واسمه الحقيقي "محمد لكبيد" كان يتنفس بالتعذيب، وله سوابق، فالانقلابيون الأوائل كان هو يعذبهم، وقد سمعنا من مصادر موثوقة أنه فر إلى السينغال وأن جلد وجهه بدأ يسقط، وهو الذي قال لي "سأحول جسدك من البياض إلى السواد كالحراطين". كيف كان تعامل السفارة الجزائرية في نواقشوط مع قضيتك؟ * عند اعتقالي سنة 2005 قامت الجالية الجزائرية بإخبار السفارة بالاعتقال، وطلبت التدخل لصالحي، وفعلا قام القنصل الأستاذ سيد علي بالتدخل كما زار بيتي مع بعض أفراد الجالية، وزار زوجتي عدة مرات في المستشفى رفقة عائلته، وعند خروجها كان يتردد عليها كل أسبوع أو أسبوعين ويعطيها مبلغا ماليا معتبرا يصل إلى 2 مليون سنتيم، وعندما طلبت من زوجتي دخول الجزائر كان هو من قام بكل الإجراءات إلى غاية ركوبها الطائرة. وهنا في الجزائر، هل تحركت جهات رسمية ومن المجتمع المدني لصالحك؟ * عند ذهابنا إلى المحكمة في المثول الأول اتصل بي هاتفيا فاروق قسنطيني، رئيس اللجنة الاستشارية لحقوق الإنسان، وقال إنه درس الملف ووجده خال من أية أدلة تدينني، ومن هنا أطلب من الأستاذ قسنطيني أن يساعدني قانونيا لاسترجاع حقوقي المعنوية والمادية. على ذكر الهاتف، كيف كنت تجري اتصالاتك من داخل السجن، أليس ذلك ممنوعا؟ * هذا من رحمة الله علينا ،فمعلوم أن الهاتف ممنوع في السجون، لكن المحامي استطاع أن يمرر لي هاتفا كنت أستخدمه عند الحاجة ثم أخفيه، والأمور كانت تسير جيدا في المرحلة الأولى، لكنهم تفطنوا للأمر واستوردوا أجهزة متطورة من فرنسا تقوم بالتشويش لعرقلة اتصالاتنا بالخارج. هل ستستقر في الجزائر نهائيا أم تعود إلى موريتانيا؟ * عندما وصلت إلى الجزائر وجه لي الأهل نفس السؤال، فقلت أنا لا أفكر إلا في كيفية نسيان المأساة، ولحد الآن لم أقرر إن كنت سأستقر في الجزائر أم لا، غير أن لي أمورا عالقة بموريتانيا علي تسويتها. هل غيرت هذه التجربة المريرة نظرتك إلى الموريتانيين؟ * أولا الموريتانيون شعب رائع جدا جدا، بيوتهم مفتوحة للأجانب والأشقاء، حتى أن هناك نكتة تقول "إن بيوت الموريتانيين لا أبواب لها"، الشعب الموريتاني لم يكن يتصور أن يحدث مثل الذي حدث لي... وفي الأخير أريد أن أشكر المجتمع المدني الجزائري على مؤازرته لي في محنتي، لقد كان لي صديق في موريتانيا يسحب من الانترنت كل ما كانت تكتبه "الشروق اليومي" عني ومعها تعليقات القراء المؤثرة جدا، وهذا التضامن هو الذي أعطاني الثقة بنفسي، كما أشكر المحامين في موريتانيا الذي برعوا في الدفاع عني. ورقة بيضاء مقابل 500 دينار! حرص إسماعيل عيسى على كتابة مذكراته أثناء التعذيب والاعتقال، رغم أنه كان ممنوعا من كل الحقوق في مراكز الشرطة، لدرجة كان يشتري الورقة الواحدة ب 500 دينار من الحراس، ولأن الورق كان يكلفه الكثير فقد اجتهد في الاختصار والتركيز، والكتابة بأحرف صغيرة جدا وعلى مساحة كل الورقة، التي لا تصلح للكتابة إلا على جهه واحد. لقاء: رشيد ولد بوسيافة