هناك لحظات تبلغ من القداسة ما يجعل غمرة العاطفة تطغى وتسود، وها هي ثورة الزعاطشة تعود في ذكراها 160، تحيي ما كان نائما في الذاكرة من روايات وحكايات وحقائق عن تلك الثورة، عن شيخها المجاهد، عن أبطالها الميامين، عن رجالها ونسائها وأطفالها الذين ذادوا عن الشرف الوطني، فلم يرفعوا الرايات البيضاء، بل قدموا عطاء الدم بسخاء، وهل هناك ما هو أكرم من عطاء الدم• لقد تفتحت عيوننا وأذهاننا في بلدتنا ليشانة بولاية بسكرة على الزعاطشة المقاومة، التي ما تزال آثارها موشومة في الذاكرة، وكانت تتناهى إلى أسماعنا أحاديث عن علماء أجلاء وأولياء صالحين ومجاهدين أشاوس: سيدي سعادة، عبد الرحمان بولقرون، سيدي عبد الباقي، فرحات بن الدراجي، أحمد سحنون وغيرهم• ما تزال تلك البطحاء في أرض الزعاطشة الشهيدة، تحوي في جوفها دليل الجريمة، تأوي في حضنها البشر والإثارة والحجر، بعد أن دمر الاستعمار بمدفعيته الحاقدة تلك القلعة الثائرة وشنق المئات من أهلها الصامدين وأمعن في التنكيل بقائدها المجاهد.. ذلك هو سجل الاستعمار المخزي وتلك هي حضارته التي تعتمد سياسة التخريب والتدمير والإبادة• إن ثورة أبناء الزعاطشة تروي قصة شجرة النخيل التي لا تموت إلا وهي واقفة، وكأني بها، وهي الكريمة المعطاة، تلتحم في معركة الذود عن الأرض والعرض، وقد فتحت عيوني على تلك النخلة المباركة التي تنتصب في شموخ وكبرياء، رغم ما أصابها من نيران المدافع وما تعرضت له من كيد الأعداء، فإذا هي تصر على أن تبقى حية، على أن تظل واقفة، تمد أرض الزعاطشة المعفرة بالدم الحار والجثث الطاهرة، بالظلال والثمار ومعاني الصمود، في حين انهزم المحتل الغاصب وتولى مدحورا• تلك هي الرسالة الأبدية التي تركها فينا الشيخ الشهيد بوزيان وكل من معه ومن جاؤوا من بعد.. إنها الرسالة التي تؤكد علينا في كل حين بأن بوزيان، بوعمامة، نسومر، المقراني، الحداد، بن بولعيد، بن مهيدي، سي الحواس، عميروش، لطفي وغيرهم من الشهداء، كانوا وسيظلون أحياء في الوجدان الجماعي الجزائري، لأنهم بايعوا الوطن بالحق قولا وعملا وتصدوا إلى ما تقترف يد الاحتلال من سلب للحقوق واغتصاب للأرزاق وعدوان على الشخصية والهوية والوجود• تعود ذكرى ثورة الزعاطشة، بعيدا عن خصخصة أو احتكار التاريخ، فهذه الثورة هي ملك للجزائريين جميعا، مثلما هي بقية الثورات الأخرى والتي ستظل مصدر اعتزاز وإلهام للأجيال المتعاقبة، تعمق الإيمان بالوطن المفدى، بهويته الوطنية، بشخصيته الحضارية، بوحدته الصلبة، بتاريخه المجيد، بثورة المليون ونصف مليون شهيد، رغم الحاقدين والمتقولين والمتطوعين بمهمة تبييض الجرائم الاستعمارية• تأبى ثورة الزعاطشة إلا أن تعود وهي مفعمة بدلالات العزة والافتخار، تقدم الشهادة مرة أخرى، مثل ثورة العامري ومقاومة أحمد باي بأولاد عبد الرحمان أكباش والشيخ بن عزوز البرجي، ومثل أخواتها في كل بقعة من أرض الجزائر، على تاريخنا العريق، الحافل بمآثر الآباء والأجداد الذين رفضوا الهيمنة، أينما كان مصدرها وقاوموا الاحتلال أجيالا متعاقبة، حاملين لواء الحرية، رافعين اسم الجزائر عاليا ورايتها خفاقة إلى الأبد، رغم المهزومين والمسكونين بالسواد• إن التاريخ هو تراكم للخبرة وليس ذاكرة جامدة، وهو علم وحقائق وأحداث، وهو كذلك فن تتأمل فيه الأجيال المتعاقبة بعقولها وتتفاعل معه بجوارحها، فلماذا لا نطمح إلى إنجاز فيلم عن بوزيان على غرار بوعمامة وبن بولعيد ومثلما نحلم بأفلام تخلد جهاد الأميرعبد القادر وعبد الحميد بن باديس• إن بسكرة التاريخ تفخر بكونها الأم الولود لأعلام وأبطال جمعوا بين العلم والنضال والشهادة: هناك بن مهيدي، خيذر، الحواس، شعباني، بعرير، زيان عاشور، سي العرافي وعبد الرحمان بركات، عبد الحفيظ الخنقي وهناك الطيب العقبي، رضا حوحو، محمد خير الدين، ابن رحمون، عبد المجيد بن حبة، الزاهري، الأخضر بن الحسين، المكي بن عزوز والعلامة الجليل عبد الرحمان الأخضري• وهناك بسكرة الراهنة، خزان الثقافة والأدب من شعراء وكتاب ومؤرخين، خزان الغذاء في الجزائر، ومن حقنا أن نطمح اليوم أن تصبح بسكرة بقطبها الجامعي الرائد وأساتذته البارزين وطلبته المتفوقين خزان الفكر والعلم والنهضة، ولعل أول درس ينبغي أن يستخلصه شباب الجزائر من ماضينا القريب والبعيد، هو التسلح بالعلم والوطنية• طوبى لك شيخنا أحمد بوزيان، من شهيد آثر الموت في ساحات الوغى، ومن مجاهد عاش واستشهد من أجل وطنه وشعبه، وكأني به يقول: أنا في أرضي، ليس لي سواها ولا أريد أن أخرج منها، حتى ولو أراد الاستعمار من خلال زج رؤوس الشهيد بوزيان وابنه ومساعده وتعليقها في مدينة بسكرة ثم حفظها بمتحف بباريس. استشهد الشيخ بوزيان، وكأنه كان ينادي: إذا هانت عليكم عقيدتكم وهويتكم ولغتكم وحريتكم وتاريخكم، فما الذي لا يهون عليكم بعد ذلك؟ معذرة، إن بدا للقارئ الكريم أني أتحدث عن مسألة خاصة، فإن للعاطفة سطوة لا تقاوم، وما بالي إذا كان الحديث عن مصدر فخري واعتزازي، عن الزعاطشة، عن ليشانة، عن بسكرة.. عن وطننا الجزائر. عيرني عبد بني مسمع فصنت عنه العرض والسمع وقلت من ذا الذي يعض الكلب إذا عض