في أغلب الحوارات العربية الراهنة، ذات العلاقة بالشأن الاجتماعي، صورة لحالة من ''صراع القيم'' وفوضى في الرؤية والفهم مع حالة من الحذر معتادة تجاه القادم والجديد• وتلك واحدة من ملامح المرحلة الانتقالية التي تعيشها المجتمعات العربية اليوم في ظل عصر جديد فرضت خلاله وعبره وسائل الاتصال الحديثة أشكالا متعددة - بعضها أقرب للانقلاب في المفاهيم - من الفوضى والتردد والتيه! هذا المشهد على ما فيه من تجارب مؤلمة (من مثل تنامي حوادث العنف) يأتي كواحدة من صور عزل المجتمع عن حقائق وظروف عصره مما يعمق حالة الشتات في الرؤية والخوف من المستقبل• ولهذا يمكن لمراقب المشهد الاجتماعي في بعض المناطق العربية ملاحظة كثير من صور التطرف والفوضى في الرؤية والفهم في كل الاتجاهات• وهنا بعض الأمثلة: ثمة من يفهم فكرة ''الانفتاح'' كما لو أنها حالة من المجون وقلة الأدب والانفلات من القيم الإنسانية (من مصادرها الديني والثقافي والإنساني)• من هذه الفئة أناس يتخذون بعض الأفلام الأمريكية - مثلاً - مرجعية لمفهوم الانفتاح - الخطأ - الذي يعتقدون به• بينما حقيقة المجتمع الأمريكي في غالبيته مجتمع محافظ ومتدين ولديه قوانين صارمة ضد بث مشاهد العنف والانحلال خارج التنظيم الذي يحدد بدقة مواعيد البث وطريقة الاشتراك وأعمار المشاهدين• ولهذا تكون ''الحرية'' المقدسة في الوعي الاجتماعي في سياق قانوني صارم يحترم معتقدات الناس وقناعاتها وذائقتها• ووفقًا لهذا المفهوم لا يمكن أن تكون ''الحرية الشخصية'' على حساب قيم وأذواق وقناعات الآخرين• المحزن أن ما يبث في كثير من الفضائيات العربية، وفي وضح النهار، قد يكون في دائرة ''الممنوع'' الذي يعاقب عليه القانون في بلد مثل الولاياتالمتحدةالأمريكية• إذن إذا كانت ''المرجعية'' لبعض دعاة ما يسمونه جهلاً ب''الانفتاح'' هي مشاهد معينة تنتجها السينما والبرامج التلفزيونية الأمريكية فتلك كارثة لأن قطاعا عريضا داخل المجتمع الأمريكي نفسه ينظر لذلك المنتج السينمائي والتلفزيوني كمنتج ترفيهي ليس إلا ولا يؤخذ مأخذ الجد إلا في دوائر ضيقة جدًا تنتمي عادة لما يسمى ب''المجتمع السفلي'' وفي دائرة الممنوع الذي يحرمه القانون ويعاقب عليه• ثمة أمثلة كثيرة على أن ''الانفتاح'' الثقافي والاجتماعي، وفهم حقائق التغيير في الكون كله، لا تعني إطلاقًا خروجًا على قيم إنسانية تكاد تكون عالمية مثل الصدق والوفاء والانضباط في العمل واحترام ثقة الآخرين والفخر بالتراث المحلي وفهم منتج ''الآخر'' الثقافي والحرص على العائلة ورفض ''قلة الأدب'' في السلوك والمعاملة• هكذا تميزت اليابان - على سبيل المثال - صناعيًا دون المساس بجوهر ثقافتها الاجتماعية بل إن كثيرًا من شركاتها استثمرت قيمًا أساسية في الثقافة اليابانية لمزيد من الإصرار على المنافسة والنجاح• وفي المجتمع العربي أفراد منفتحون على العالم بوعي بنّاء لم يتجاوز حدود القيم والأخلاق الإنسانية المشتركة في تعاملهم مع المختلف فكريًا ودينيًا واجتماعيًا• حالة الفوضى في القيم والمفاهيم التي تعيشها قطاعات واسعة في العالم العربي اليوم لا تقتصر على تلك الفئة التي تفرغ مفهوم الانفتاح من قيمه ومبادئه الأخلاقية في الرؤية والسلوك• في مقابل تلك الفئة فئات أخرى تفهم أن الارتباط بعادات وتقاليد المجتمع يكون بالردة المتسرعة للقبيلة دون استيعاب حقيقي لقيم ومبادئ حددت وأسست لثقافة القبيلة العربية قبل نشوء الدول الحديثة في المنطقة• ومثلما أن الفضائيات - في الغالب - هي مرجعية بعض من يعتقدون ب''الانفتاح'' بناءً على فهم طفولي ومضلل بقيم الانفتاح ومعانيه، نشأت حديثًا فضائيات عربية تقدم ثقافة القبيلة القديمة بطرق ربما تعارضت كثيرًا مع القيم الحقيقية للقبيلة في مرحلة مختلفة حكمتها ظروف وأحداث مختلفة عما يجري اليوم• ولهذا لا تستغرب أن تسمع من بعض الآباء والأجداد من يخبرك أن ما يعرض في كثير من الفضائيات المتخصصة في الشعر والتراث يسيء لثقافة القبيلة في الماضي ويختزل القبيلة، بتاريخها وظروفها المعقدة، في مشاهد أقرب ما تكون للتندر والتسلية• هل أصبحت تلك الفضائيات ''مرجعية'' أولئك الهاربين من حقائق اليوم إلى القبيلة وعاداتها وقيمها المزيفة في برامج تلك الفضائيات وأمسياتها الشعرية؟ لا نضيف جديدًا حينما نردد ما قيل كثيرًا خلال السنوات القليلة الماضية بأن بعض من يتصدى للفتوى أو يمارس العنف باسم الدين يستقي ''مرجعيته'' الدينية من مصادر خاطئة ومضللة• إذًا نحن هنا أمام حالة جهل ب''المرجعيات'' الأصلية الحقيقية للمفاهيم والقيم والمبادئ التي تنظم أو توجه سلوك البعض في مجتمعاتنا فلا مدعي ''الانفتاح'' يفهم معنى ''الانفتاح'' ولا العائد ل''القبيلة'' يفهم تاريخ وظروف القبيلة في السابق القريب ولا البعض ممن يخلط بين ''التدين'' و''التزمت'' يفهم المعاني الحقيقية للدين وأحكام الشريعة ومبادئها• في المحصلة، تنشأ حالة من الصدام بين القيم والمفاهيم تشكل أرضية مهزوزة يستند عليها البعض في سلوكهم و تعاملهم مع الأفراد و الأحداث و في نظرتهم لأنفسهم و للعالم المتغير بسرعة من حولهم. و لفوضى القيم غير الخلاقة في العالم العربي فصول أخرى لم تبدأ بعد.