المعلوماتية انتقال لتاريخ جديد التحولات التاريخية الكبيرة كان لها دورا إنعطافيا في التطور البشري والتقدم الحضاري، ولكن تحولات القرن ال20 هي شيء آخر في منعطفاته، إذ استخلص هذا القرن كل تجارب التاريخ واستجمع خبراته وبدأ حركة تصاعدية بلغت ذروتها في نهاياته وبدء إطلالته على القرن ال21، والتقدم التقني والمعلوماتي في الاتصال والارتباط كانت معجزة هذا العصر الذي طرحها مبتكروها كمرحلة انتقال حاسمة في حياة البشرية، حيث استطاعت هذه التقنية أن ترفع الحواجز وتقرب المسافات إلى حد جعل العالم قرية صغيرة تمتد بشبكة معقدة من الاتصالات، وهذه التقنية قد ولدت وتولد مفاهيم جديدة باعتبار أنها قد قاربت بين البشر والأمم إلى حد التفاعل الشديد والسريع، بحيث خلقت حالة تداخل شديدة بين الأفكار والثقافات ينتج عنها أما الصراع والاصطدام أو الذوبان والانصهار، ففي هذا التاريخ الجديد ليس هناك مجال لنصب أسوار العزلة الحديدية لحماية مجتمعاتنا بل أصبح الاندماج الحضاري والتداخل الإنساني إلى حد لا يتصور، لذلك فإن أهم عمليات العولمة وسمتها المميزة هي المعلوماتية أو التقنية العليا بجوانبها العسكرية والمدنية، والمقصود بالمعلوماتية ليس فقط نقل المعلومات وتيسرها لأوسع عدد من الأفراد والمؤسسات وإنما الفرز المتواصل بين من يولد المعلومات "الابتكار" ويملك القدرة على استغلالها "المهارات" وبين من هو مستهلك لها بمهارات محدودة. إن البحث عن هذه التحولات التقنية المثيرة ليس لكونها أشكالا حديثة يستلذ بها البشر وتزداد رفاهيتهم من خلالها، وإنما لما ستفرزه من تحولات نفسية وثقافية واجتماعية وسلوكية على البشر بحيث تنطلق من الأشكال التقنية الجديدة أنماطا بشرية في السلوك والفكر والمجتمع، لذلك فإن هذه الإفرازات لابد تلقي بظلالها على مجتمعاتنا لتفرض ثقافتها وقيمها وأخلاقياتها الجديدة علينا وهذا سيشكل لنا تحديا كما هو الآن، ومن هنا لابد من دراسة ظاهرة المعلوماتية ومعرفة ملامحها وأشكالها وتموجاتها لكي نصل إلى تحليل أبعادها وآثارها على المستقبل. تقنية الاتصال السريع وصناعة المعلوماتية إن أساس ظهور المعلوماتية وتحولها إلى قوة العصر، يرتكز أساسا على تطور تقنيات الاتصال وسرعتها، بحيث أصبحت لها السلطة في صناعة الأحداث وبناء السياسات وإسقاط الأنظمة وتوتير الاقتصاد وانهياره والتهام الثقافات وتعليب العقول، فللمعلوماتية عبر أدواتها الاتصالية وأخطبوطها الإعلامي القدرة على صناعة الواقع الوهمي حسب توجهات النخبة المسيطرة الاقتصادية والفكرية للاستئثار والتحكم والسلطة، ذلك أن القدرة على رسم حدود الواقع هي القدرة على السيطرة، وأن عملية نقل المعلومات هي السلطة واستثار فئات معينة بحق الوصول أو التعامل معها إليها يمثل نوعا من السلطة خطرا وعنيدا، فالسلطة المعلوماتية هي القدرة على استثمار سرعة الاتصالات لإيصال معلومات مجهزة مسبقة لأهداف معينة، وهنا تكمن جوهر ظاهرة المعلوماتية باستغلال الفراغ الذي يخلفه متلقي الرسائل بالاتصال السريع عندما يفقد الوقت اللازم لاستيعاب الرسالة وهضمها، أي أن الاتصالات التي هي عصب عصر المعلومات وعملية الاتصال تتطلب في الأساس مُرسِلا ومُرسَلا إليه وقناة اتصال ومن شأن اعتماد وسائل الاتصال البالغة السرعة أن تجعل المعلومات تنتقل عبر قناة الاتصال في فترة وجيزة جدا تؤدي إلى وضع المرسل والمرسل إليه وجها لوجه وبالتالي انهيار عوامة المعلومات التي عرفها المختصون بأنها "الوقت الذي تستغرقه المعلومات في قناة الاتصال"، فتقنية الاتصالات وسرعتها وقدرتها على إيجاد التواصل المادي بين البشر وضعتها في مقدم الأولويات الثقافية والاقتصادية، بحيث أصبحت المنبر الثقافي والتعليمي الذي يكتسب منه الناس حتى أصبح ممتلكو هذه الوسائل المعلوماتية هم الذي يصنعون المعلومة ويرسمون واقعا خياليا يتحكمون بتأثيراته على المتلقي المسكين، ففي ثقافة التلفزيون مثلا: كثيرا ما يعتقد المرء أن ما يراه هو حق وهو في الغالب أكثر أهمية من الحقيقة الفعلية حين يمس الأمر فهم وتصورات النشاطات الإنسانية، ففي الأفلام صار الناس لا يميزون بين ما هو تاريخي حقا وما هو روائي، فقد غدا الإعلام دينا مدنيا حالا محل التاريخ والثقافات القومية والعائلة والأصدقاء وبات القوة السائدة التي تخلق تصوراتنا العقلية عن الواقع، والإعلام ببساطة يصنع ويجهز ما يباع أي كل ما يزيد الأرباح وما يباع هو الإثارة والجذب السريع والفوري، فوسائل الاتصال السريع هذه لا تؤدي فقط إلى عملية تسهيل أعمال المستخدم ورفاهيته بل أنها تصنع له ثقافته الخاصة وسلوكه بجميع نواحيه وبرنامجه اليومي الخاص حتى ذوقه في الشرب والأكل، بل وتسيطر عليه كاملا عندما تحدد له ما هو الصحيح أو الخطأ والحق أو الباطل، ف«هوليود» مثلا لا تنتج أفلاما فحسب بل تولد قوة ونفوذا، إنها تساهم تحديدا في تظهير صورة الخير والشر في العديد من الأوضاع الإستراتيجية، وإذا كانت الماكنة المعلوماتية قادرة على تحويل الواقع إلى خيال وتغيير الخيال إلى واقع أو الشر إلى خير، فإن الأمر سيصبح خطيرا حينئذ باعتبار أن أدوات المعلوماتية أصبحت العصب الحيوي الذي يتنفس منه العالم كافة أفكاره وتحركاته وفعالياته، فلقد أصبحت ألعاب الواقع الافتراضي في طريقها لأن تصبح أكثر من مجرد وسيلة للترفيه إنها تتحول إلى جزء حيوي من الثقافة الجديدة لدى الشباب، ما الذي سيفعله مدمنو الألعاب إذا ما اشتد عودهم؟ إن مبعث الخطورة ينبع من كون أدوات المعلوماتية هي في يد قلة من الأباطرة الذين احكموا سياساتهم ونفوذهم ويفرضون ما يريدون على العالم، فشركة مثل شركة «AT & T» التي تعتبر إحدى أكبر شركات الاتصالات البعيدة المدى في العالم تقدر إن ثمة ألفين أو 3 آلاف شركة عملاقة تحتاج إلى خدماتها العالمية، ويوجد حسب إحصاءات منظمة الأممالمتحدة 35 ألف شركة كبيرة عابرة للأوطان ترتبط بها 150 ألف شركة تابعة، وقد اتسعت تلك الشبكة بحيث يقدر أن المبيعات ما بين الشركات التابعة التي تنتمي للمجموعة نفسها صارت تمثل ربع التجارة العالمية وهذه البنية الجماعية التي تشهد عز نموها لم تعد مرتبطة بأحكام الدولة والأمة وهي تمثل عنصرا أساسيا من نظام الغد العالمي. إن ثورة المعلومات فتحت آفاقا واسعة البشر للعثور على رؤى جديدة عجز عنها السابقون لافتقادهم لتلك التقنيات، ولكن السؤال يبقى محيرا كيف يستطيع الإنسان أن يتعامل مع هذا الاجتياح المعلوماتي بشكل موضوعي وعقلاني ونقدي، فيا ترى ما الذي سيفعله الشخص العادي وهو يجد نفسه ليس في مواجهة 50 قناة فقط بل آلاف من أفلام السينما والعروض المختلفة؟ وكيف سيواكبون مئات القنوات من التلفزيون التفاعلي وخدمات التسوق وكلها تتزاحم لجذب انتباهه؟ وكيف سيختارون المنتَج الصحيح من أحسن بائع وبأرخص الأسعار؟. ومن ملامح هذه الظاهرة أباطرة المعلومات فقد ظهر في خضم هذه الأعاصير المعلوماتية رجال من نتاجات الرأسمالية النفعية أصبحوا يسيّرون العالم بصناعتهم للأحداث وتسويقهم التجاري للمعلومات عبر احتكارهم لأساطيل كبيرة من أدوات الأعلام والمعلومات، مثل «بيل غيتس» الذي يعد أغنى رجل في العالم وصاحب أكبر شركة كومبيوتر أنتجت نظام تشغيل تعتمد عليه معظم الأجهزة الكومبيوترية في العالم، ومثل «روبرت مردوخ» ذلك اليهودي الأسترالي المتجنس بمجموعة جنسيات عالمية الذي بدأ حياته العملية عام 1952 وكان عمره وقتها 21 عاما حين ورث عن أبيه جريدتين محليتين في استراليا، لكنه انطلق مثل الصاروخ ليصبح إمبراطور الإعلام العالمي حين سيطر على 70% من الصحف الأسترالية، وبدأ منذ عام 1969 بالتوجه إلى بريطانيا حيث اشترى صحف «التايمز» و«الصن» ثم أصدر «صنداي تايمز» و«نيوز أوف ورلد» ثم سيطر على محطة «بي سكاي» التي تضم 40 قناة، ثم محطة «جراندا سكاي» التي تضم 7 قنوات ثم «بريميوم شانلز» واتجه بعد ذلك إلى كل العالم، ففي اليابان يمتلك محطة «جي سكاي بي» وفي الصين قناة «فونيلس»، وفي الهند قناة «إل سكاي بي» وفي إندونيسيا تلفزيون إندونيسيا وقناة في جنوب أفريقيا وقناتان في البرازيل والمكسيك، وفي أمريكا يمتلك مجموعة قنوات «فوكس» القرن ال20 و«فوكس» 2000، حيث يسيطر على 22 قناة تغطي 40% من مشاهدي التلفزيون في الولاياتالمتحدةالأمريكية، إضافة إلى امتلاكه لجريدة «الواشنطن بوست» ودار نشر «هابرر كولينز»، وقد قال عنه «تيد ترنر» أحد أباطرة المعلومات "لا تسمحوا بدخول هذا الرجل إلى بلدكم فهو يريد السيطرة على جميع محطات التلفزيون في العالم ويريد التأثير على كل الحكومات"، ويذكر صاحب كتب احتكار الإعلام، أن طبقة تمثل 1% من الناس تمتلك السيطرة على الإعلام ففي عام 1983 كانت أغلبية ملكية الشركات محصورة في 50 شركة، وفي عام 1997 تقلصت الشركات المسيطرة على الإعلام إلى 10 شركات، وعندها يسيطر مجموعة قليلة من الأشخاص هم رؤساء شركاتهم على أكثر من نصف المعلومات والأفكار التي تصل إلى 220 مليون أمريكي، ومن خلال امتلاك الإعلام والسيطرة عليه فان ما يتراوح بين 30 إلى 50 مصرفا وما يتراوح بين 10 إلى 50 شركة إعلامية يسيطرون على العالم ويصنعون أو يحطمون السياسيين والحكومات. الاندماج الثقافي واندثار اللغات أحد ملامح ظاهرة المعلوماتية هو ذلك التداخل الثقافي الذي أفرزته وفرة وسائل الاتصال وسرعتها، حيث استطاعت الدول القوية بأدواتها وخبرتها ومنسوجها الثقافي أن تغزو الشعوب الضعيفة التي تفتقر لقوة الثقافة وأصالة التفكير وروح الثقة بعناصر حضارتها لتذوب في عناصر الثقافات القوية وتعيش مفتخرة على هوامش المجتمعات المعولمة، واللغة هي أحد أهم المفردات التي تفرضها الثقافة الغازية على المجتمعات المستأصلة لتصبح مفرداتها عنوانا رئيسيا في كثير من العناوين الرئيسية وتفقد اللغات الضعيفة التي لا تستند إلى ثقافة أصيلة ونسيج ثقافي متماسك وجودها وتصبح من اللغات الميتة. والخطير في الأمر أن اللغة تصبح مفتاحا لدخول العالم الجديد ومظهرا للتقدمية الشكلية خصوصا عندما تفقد المجتمعات إيمانها بثقافتها وتتنصل من أصالتها هروبا من واقعها المتخلف، فاللغة ليست مجرد آلة وسيلة للتخاطب وإنما بالدرجة الأولى آلة للتفكير والنقد والتعلم. إن اللغات الأخرى لا تمثل خطرا بحد ذاتها بل تعلمها والاستفادة منها يشكل منطلقا مهما لزيادة الخبرة واستثمار العبر من تجارب الآخرين ولكن الخطورة في الأمر أن تتحول اللغة إلى ثقافة بديلة تحل نفسها في الشخصيات المهزوزة التي فقدت قابليتها الذاتية وأصالتها الحضارية، ويعتقد «ادوارد هوف» الخبير باللسانيات بجامعة «ساوثرن» في «كاليفورنيا» أن الكومبيوتر سيقود العالم إلى تهديم برج بابل اللغوي الذي لا يزال عائقا أمام البشرية حيث سيتمكن من خلق أجواء التفاهم بين الإنسان والآلة وتوليد الآلة لمعارف ينهل منها الإنسان، ويضيف قائلا "إن تاريخ العالم يشير إلى أن الناس يضطرون إلى تجزئة لغتهم وخلق اللهجات لان اللغات لدى نضوجها أو شيخوختها تزداد تعقيدا وتنوعا، ومع حصول التمازج الحالي في اللغات على المستوى العالمي خصوصا مع توسع الشبكة الإلكترونية والبريد الإلكتروني فإن اللغات ستزداد امتزاجا ويؤدي تطوير برامج كومبيوترية للترجمة الآلية الدقيقة إلى بروز حرية الاختيار كأحد أهم ملامح النشاط اللغوي للإنسان لتسجيل أفكاره وتحويلها إلى 7 آلاف لغة وسيهدد ذلك اللغة الإنجليزية التي لا تزال اللغة الطاغية في الإنترنت"، ومن التوقعات المثيرة احتمال اندثار ما يربو على نصف اللغات التي يعتقد أن عددها يصل إلى 6 آلاف لغة في العالم، وتتوقع «روزماري اوستلر» الباحثة الأمريكية في اللغات أن منتصف القرن الحالي سيشهد حلول هذه الظاهرة بسبب هيمنة عشر من اللغات أو أكثر على النشاطات البشرية، وقد تقود هذه الظاهرة إلى تدمير بعض الجوانب المهمة في ثقافات العالم العظيمة كما أن اللغات الأصيلة تمثل جزءا مهما من تراث الشعوب.