لطالما ارتبطت صورة الحوارات الصحفية بين رجل إعلام وبين رجل أدب، بصورة الشرطي الذي يفتش في لسان اللص عن دليل إدانة، يخرج به الشرطي منتشيا بذكائه ''التحقيقي''، ويدخل به اللص المحاوَرُ في الغالب قفص الاتّهام، لذلك فكّرنا أن نستدرج ''لصوص المتعة الأدبية''، لمحاورة بعضهم البعض، في ''محشاشتهم'' البعيدة عن أنظار ''المخبر الصحفي''·· أكيد سيكون الحوار أكثر حميمية وأكثر مكاشفة، ما دام لا يعرف مزاج اللص سوى لص آخر·· / وعذرا على هذه التشبيهات اللاسعة/ ·· في عدد اليوم، صافح الروائي أمين الزاوي يد الروائية فضيلة الفاروق، وبعد المصافحة كان هذا الحوار·· القسم الثقافي أمين الزاوي: صديقتي الأديبة الروائية المتميزة فضيلة الفاروق، حيرة أن أجد نفسي مورطا في هذه المهمة العويصة، مهمة السؤال وأنا الذي يعتقد أن أجوبة الأديب تسكن نصوصه· ولكن مع ذلك قلت لأسأل المرآة· بداية، ما الفرق بين نجومية الروائية ونجومية الفنانة الاستعراضية؟ فضيلة الفاروق: يمكنك أن تسأل بطريقة أخرى، هي هل أن الشهرة اختلفت اليوم عن شهرة أيام خلت للكاتب؟ وأظن أنها فعلا اختلفت، زمان كان الكاتب يشتهر بوقار، فيما اليوم الكاتب يشتهر أحيانا لأنه باع نفسه، الكاتب الذي يكتب لأن الجمهور ''عايز كدة'' ويتملق كل من يمكنه أن يوصله إلى عرش الشهرة، ويكذب ويتعرى، ويسترخص نفسه لأصحاب السلطة والمال···الكتّاب أيضا يا سيدي أصناف، هناك من يباع منهم ويشترى، هناك من يسرق ويتحول إلى تاجر ذمم، وبالطبع لا يمكن أن نحصر الشهرة في تاء التأنيث فقط، أما سؤالك الملغوم يا صديقي فأنا لا أجد له جوابا سوى أن ليس كل ما يلمع ذهبا، لكن عامة الناس لا تفرق بين القصدير المذهب اللامع وبين الذهب الأصلي، نحن مجتمع يتهافت على أشرطة هيفاء وهبي، وروبي، و الفوركاتس، ومشروب الكوكاكولا، واللحم المستورد لأنه ''رخيص وحلو'' وأنا لا ألوم لا المجتمع ولا ''الرخيص الحلو''، كل وضع في مكانه يا سيدي··! الزاوي : المرأة العربية الذكية خطر على النظام العام، هكذا يراها فقهاء الذكورة المريضة، أنت واحدة من المتهمات بذلك، هي تهمة المديح، كيف تردين على ذلك؟ الفاروق: هي ليست بالتهمة تماما، إذ أراها أقرب إلى الشائعة التي لا تسمن ولا تغني عن جوع، أو ما ينطبق عليه المثل القائل ''الكلاب تنبح، والقافلة تسير'' ، وأشير فقط أن في هذه الدنيا هناك خيارات بين أن يعيش الإنسان بقناعاته ويحقق ذاته وبين أن يكون مسيرا، يجره إلى قدره أشخاص آخرين، وأنا اخترت أن أكون من بين المجموعة الأولى· أما الباقي فلا يهمني، فالإنسان يعيش حياة واحدة وقد عشتها كما أريد، لا كما يريد الآخرون· الزاوي: كيف تتعامل فضيلة الفاروق مع الغيرة الأدبية في ظل تصاعد أسماء روائية نسائية تخطف المواسم والإعلام؟ الفاروق: قد لن تصدقني إن قلت لك إني لا أغار، أنا نسوية حتى النخاع، وهذا ربما من عيوبي الكبيرة، لهذا فأنا أسر كثيرا حين أقرأ لكاتبة جديدة، وأفرح أكثر حين تتميز، بل أحيانا أصاب بغيض فقط لأن بعض الكاتبات يحققن شهرتهن بأجسادهن في الكواليس، ويكتبن أي كلام، وقد كتبت كثيرا عن كاتبات حققن ذواتهن بأقلامهن وأعتز بوجودهن و تقدمهن، ولا أخاف أبدا من شهرتهن التي تفوق شهرتي، وعلى سبيل المثال لقد احتفيت بطريقتي لدى صدور رواية اللبنانية علوية صبح ''إسمه الغرام'' فأهديت صديقاتي وأصدقائي عددا كبيرا منها، وكذا فعلت مع روايات بتول الخضيري وفوزية شويش السالم· وفي الجزائر، أحببت عبير شهرزاد جدا جدا، فقد تميزت بلغتها وخيالها الخصب، وأنتظر الكثير من عايدة خلدون مثلا التي لم تنل حقها أبدا، وكاتبات أخريات يرزحن تحت ثقل التهميش··· الزاوي : في إشارة إلى العائلة الجزائرية وقراءة الرواية، هل تشعر فضيلة الفاروق بالإحراج العائلي؟ الفاروق: تجاوزت هذه المرحلة منذ زمن بعيد، فأنا أنتمي لعائلة مثقفة على شساعتها، و جميعهم '' إسم الله حولهم '' يقرأون باللغة العربية، وإن كان الجيل القديم يجد أفكاري متمردة وحادة، فإن الجيل الجديد بذكوره وإناثه يشجعني، وبيني وبين أخوتي ترابط قوي جدا والحمد لله، أما والدي فهو قارئي الخطير، و له كامل الحرية في قول ما يريد، فهو أول من رماني في أفواه الكتاب الكبار من همنغواي إلى كامو إلى دوستويفسكي، فقد كان قارئ رواية ممتاز، و أحيانا حين ينتقدني بحدة أبتسم، فهو يتميز بروح النكتة العالية حتى في قمة غضبه، و حتى حين انزعج من بعض ما يقول، أجد أن الصمت حل جيد لتهدئته، وأظنه الوحيد الذي يجعلني أصمت، فلم أتعود أن أرفع صوتي عليه، بل أحيانا آخذ بملاحظاته كما فعلت حين نصحني أن لا أشيد بأناس من المحيطين بي لأن الدنيا تغدر فحبيب اليوم قد يتحول إلى عدو الغد، و ذكر الناس بأسمائها الحقيقية قد يحرجني في المستقبل، لهذا لم أكرر تلك الطريقة في الكتابة بعد مزاج مراهقة·
الزاوي: ما موقع الأب في تجربتك الأدبية؟ الفاروق: لقد حظيت بأب بيولوجي وأب بالتبني و هذا من حسن حظي، و كلاهما أثرا في بالإيجاب والسلب معا، لقد كانت علاقتي بهما علاقة عاصفة إنتابها الحب الكبير، والإختلاف والغضب ومشاعر مختلفة، وأظن أنهما عاشا معي صراعا من نوع آخر لم يواجهه آباء غيرهما، تمردي على كل ما هو سائد جعلهما يقفان في وجهي في البداية بشدة، ولا أدري لماذا تغيرا فيما بعد وأصبحا سندي القوي في هذه الحياة، هل أقنعتهما أنا بأفكاري أم أن الزمن هو الذي تغير بأكمله· و حين أكتب اليوم أستحضر شخصية الأب دوما لأن مجتمعنا ضعيف بسبب غياب دور الأب فيه كأبوة فاعلة، و لأن دور الأم مشوه و غير كامل· الزاوي : بصراحة كيف تقرئين واقع حرية التعبير في العالم العربي و في الجزائر على وجه الخصوص؟ الفاروق : الحرية تؤخذ ولا تعطى، كنظام أجد نظامنا أرحم من أي نظام عربي آخر، أما كمجتمع فمجتمعنا لا يرحم، وأجد الحرية في المجتمع المشرقي متوفرة أكثر ليقول الإنسان ما يريد و يفعل ما يريد· لكن هذا لا يعني أننا بخير، نحن '' مغابين'' و بعيدون عن الحرية بزمن يقدر بمئات السنين· الزاوي : كيف تنظر فضيلة الفاروق إلى الأسماء الروائية التالية: غادة السمان، أحلام مستغانمي؟ الفاروق: الأولى أحبها، والثانية أكرهها وأكره من يسألني عنها وهذا جوابي الصريح جدا· الزاوي : في علاقتك بالجزائر الثقافية والأدبية ألا تشعرين بأن هناك جحود في حقك؟ الفاروق: لا يهمني كثيرا ذلك، فأنا لا أكتب من أجل أن يهلل لي الناس، بل أكتب لتغيير واقع غلط، أنا كالأستاذ الذي يقوم بواجبه تجاه تلاميذه ولا يهمه إن قذفه أحدهم بقطعة طبشور حين يخرج من الصف· الزاوي: ألا تعتقدين بأن موجة الكاتبات العربيات اليوم حصرن أنفسهن و نصوصهن في موضوعات متشابهة كالجنس والجسد والتمرد الفردي؟ الفاروق: لا لم يحصرن أنفسهن، لكن القارئ لا يقرأ إلا للواتي يكتبن عن الجنس، مشكلتنا مشكلة قارئ و ليست مشكلة كتاب، والقارئ من جوعه للجنس يقرأ كل ما له علاقة بالجنس و الجسد، هذا هو مجتمعنا، مجتمع جائع لكل شي، يركض طيلة النهار على ''الخبزة'' ويحلم طيلة الليل بالجنس، وشرفه و كرامته متعلقة بالجسد والجنس، وأخلاقه تترفع كلما ترفع عن الجنس، وعفته تتحقق كلما غطى جسده و شوهه، هناك خلل في ثقافتنا المشوهة والتي كرسناها لأننا لم نترك لنبلغ سن النضج· نحن مجتمع حرمنا من ظروف حياة أفضل، انطلاقا من البيوت الضيقة التي ترمي بالإنسان إلى الشارع ليجد بعضا من حريته، إلى التيار الديني المتطرف وقانون التعريب المجحف الذي سير دون وعي منظومتنا التربوية نحو أمية جديدة، إلى أمور أخرى يصعب اختصارها في جواب قصير· غير ذلك يا سيدي النساء يكتبن أوجاعهن أيضا، فإذا كان الأب والأخ و الزوج والمجتمع بأكمله يعاملهن كجسد لا غير فماذا تنتظر منهن أن يكتبن؟ لكن إن أردت الحقيقة فحين تقرأ ''أناييس نن'' مثلا ستكتشف أن الكاتبات العربيات لم يكتبن شيئا عن الجنس بعد، و أن الجنس فن نجهله كعربيات· الزاوي : هل تؤمنين بأن ''َُىُّفكًُُِّْ فٌ'' هي جزء أساسي في جماليات الأدب؟ الفاروق : هذا السؤال يشبه أسئلة الامتحانات أيام الجامعة، وأجدني لا أعرف الإجابة عليه، يمكنك أن تعطيني علامة صفر مع ملاحظة''سيء جدا'' ···لا أحب أن أضع قوانين للأدب، وأحصره بين علامات معينة، لكن قد يكون ''الإستفزاز'' - إن كانت ترجمتي صحيحة طبعا، وكان غير مقحم كعنصر مفبرك وغير عفوي - عنصرا أساسيا ليصل العمل، وهذا مجرد رأي··! الزاوي: الكتابة حرية، كيف تعرف فضيلة الفاروق ''الجرأة'' في الكتابة وعلاقتها بالجرأة في السلوك الاجتماعي؟ الفاروق: الجرأة هي أن تكون شجاعا في قول ما تريد، وأظن أنها لا تتحقق إلا إذا كان الشخص جريئا من الداخل، في سلوكه و تفكيره· و النص يكشف صاحبه في النهاية، فسيئ جدا أن يكذب المرء على قارئه، و يخبره الحكايات التي تثيره و تجذبه دون أن تحمل صدقا في ثناياها، ودوما أقول إن الكاتب مثل الطبيب الذي يحقن نفسه بالدواء قبل أن يحقن به مريضه··· الزاوي: ما علاقة فضيلة الفاروق بالرواية الأجنبية قراءة؟ من من الروائيين الأجانب يشدون انتباهك؟ الفاروق: تشدني الرواية حين تكون جيدة، ولا يهمني إن كانت عربية أو أجنبية، ولكني مؤخرا انجذبت لما يكتب حول أفغانستان، جذبتني جدا رواية خالد الحسيني، ''طائرات ورقية في أفغانستان'' وقد قرأتها قبل أن تقدم كفيلم رائع تحت عنوان ''ذي رانر'' ، واقتنيت رواية جديدة لعتيق رحيمي، وأعكف على قراءة رواية جميلة لآسني سييرستاد، اسمها ''بائع الكتب في كابول''· أما الكاتب الجديد الذي اكتشفته فهو الكاتب الهندي أرافيند أديجا، في روايته ''النمر الأبيض'' والتي هي عمله الأول وقد نال بها جائزة البوكر· غير ذلك فأنا عاشقة سينما وأشاهد أغلب الأفلام السينمائية الجديدة التي تنزل قاعات العرض، وأعتبر السينما نوعا من الرواية في قالب أكثر جاذبية، والسينما الأمريكية تأخذني بعيدا، وهذه أيضا عدوى أصبنا بها من والدي· ولطالما كشفت لي السينما عن كتاب جيدين مثل الألماني ''برنهارد شرينك''· لقد قرأت الكثير وأجد أنه مجرد استعراض عضلات أن أذكركم اسما أجنبيا في هذه العجالة، فأنا أقرأ منذ كنت في الابتدائي وكلما اكتشفت كاتبا جيدا أقوم بعملية مسح لكتاب بلده ظنا مني أنهم جميعهم جيدون·· الزاوي: من من الأصوات العربية الروائية التي تعتقدين أنها ستشكل المفاجأة في الخمس سنوات القادمة؟ الفاروق: أعتقد أن المفاجآت تأتي دوما من كتاب جدد، وإن كان بعض الكتاب من الأجيال السابقة يعرفون كيف يجددون أفكارهم، لقد فاجأنا خالد خليفة برواية ممتازة، وأنتظر أن يقدم المزيد، بل أرى فيه اسما مميزا لسنوات عدة نحو الأمام، و هذا رأيي الخاص· الزاوي: من من الروائيات أو الروائيين العرب الذي تنصبه أو(ها) فضيلة الفاروق أميرا أو(ة) على الرواية العربية؟ الفاروق: من الظلم أن نطلق هذه الألقاب على الكتاب والمثقفين، وأظنها نحس على حاملها، فهي تصبح المقصلة التي تق