غير أن الاستجابة تعثرت فيما بعد، وفشلت مختلف السياسات والبرامج في اقتفاء روح الأحداث وتحسس صراخ الشباب، بعدما فشلت في التعامل مع أول تطبيقات التعددية السياسية في البلاد، ما حول هذه التجربة الرائدة في المنطقة حينئذ من نعمة إلى نقمة، أطاحت بكل الآمال وكسرت الطموحات الكبيرة التي ولدت وتوالدت بعد انتفاضة الجوع، كما سميت آنذاك، وتضاعف التراجع مع تطور الأمور إلى أزمة أمنية حقيقية أصبحت تهدد وجود كيان الدولة في حد ذاتها، وأصبحت معها مطالب الديمقراطية والتعددية أمرا ثانويا، خاصة بعد فرض حالة الطوارئ وتكرار محاولات التدخل الأجنبية المباشرة في الشأن الداخلي، مستغلة الأزمة وضعف مؤسسات الدولة الدستورية وغيابها في أحيان كثيرة· وبعد التوصل إلى معالجة هذا الوضع الخطير، أمنيا وسياسيا، عادت مؤسسات الدولة من جديد ومن نقطة الصفر، وبالتحديد من ,1997 لتؤسس من جديد لأطر الممارسة الواعية للحقوق الأساسية بكل أبعادها شيئا فشيئا والتكفل بالاحتياجات الأساسية للمواطن، التي عرفت تدهورا خطيرا أثناء الأزمة، ووفق ما تتيحه تطورات الوضع في الميدان وما يخدم المصلحة العامة وتماسك الدولة والمجتمع، مع العمل بالتوازي على استرجاع مكانة الجزائر في الخارج والمؤسسات الدولية· وأمام هذا الوضع، كان على المواطن أن يكابد ويصبر ويصابر، وهاهو يترقب مجددا تطبيق شعارات 5 أكتوبر، وبصيص الأمل للعودة إلى الحياة العادية بكل أبعادها الإنسانية· ولدت فكرة العصيان المدني كورقة ضغط ضد الجهات الرسمية أحداث أكتوبر أسست لثقافة الاحتجاج الشعبي واستثمار الشارع لتغيير الأوضاع شريفة· ع رغم مرور زهاء 20 سنة على أحداث أكتوبر ,1980 إلا أنها لاتزال تشغل حيزا مهما في نفسية المواطن الجزائري، ليس لكونها أتت بحقوق عديدة، في مقدمتها فتح مجال التعددية السياسية وإرساء الممارسة الديمقراطية بعد إنهاء عهد حكم الحزب الواحد كنتيجة لإقرار دستور جديد سنة ,1989 ولكن لأنها تمكنت من زرع ثقافة الغليان الشعبي والعصيان المدني للأجيال، من خلال استثمار الشارع لإسماع صوتها للجهات الرسمية بعد فشل القنوات التقليدية في نقلها، وإجبارها على تحقيق مطالب أغلبها اجتماعية، حتى وإن كانت تحركها في بعض الأحيان أطياف سياسية· وتشير كرونولوجيا الأحداث، التي أعقبت أحداث الخامس من أكتوبر ,1980 إلى أنها أرست ثقافة العصيان المدني في التعامل مع البيروقراطية والتثاقل لدى الجهات الرسمية وغياب النظرة الاستباقية في معالجة الأمور، واتخاذ الشارع كأحسن متنفس وفضاء لإيصال الانشغالات، حتى وإن كانت الأحداث التي هزت عدة ولايات من الوطن بالشرق والغرب والجنوب والشمال، أقل دموية بكثير عن أحداث أكتوبر التي سقط فيها 500 ضحية وقدرت خسائرها المادية بالملايير· وكانت طبيعة الاحتجاجات التي شهدتها الجزائر بعد أحداث أكتوبر سياسية بالدرجة الأولى، ومن أبرزها على وجه الخصوص، مسيرة الجبهة الإسلامية للإنقاذ باتجاه رئاسة الجمهورية بتاريخ 20 أفريل ,1990 تفاعل معها أنصار الحزب، وقد ضرب الحزب موعدا آخر مع أنصاره بعد توقيف المسار الانتخابي في 11 جوان ,1992 التي فازت فيها الجبهة الإسلامية للإنقاذ بالمرتبة الأولى بالمجلس الشعبي الوطني، تلتها جبهة القوى الاشتراكية في المرتبة الثانية، وهما حزبان معارضان· وقد اضطرت السلطة الفعلية في البلاد آنذاك للمسارعة إلى إنزال قانون الطوارئ ,1992 يحظر بتاتا تنظيم أية مظاهرات أو مسيرات بالشارع كإجراء لاحتواء أي انفلات أو انزلاق من شأنه إغراق الجزائر في حمام من الدم، لم تفلت منه الجزائر بعد استثمار الجبال من طرف الجماعات المسلحة· وقد استثمرت ثقافة استغلال الشارع للتعبير عن حجم الاستياء مرة أخرى في سياقها السياسي، من خلال تنظيم مسيرة عروش منطقة القبائل نحو العاصمة يوم 14جوان ,2001 احتجاجا على مقتل الشاب قرماح محمد ببني دوالة من طرف دركي، وهي المسيرة التي سبقها احتجاج ساخن في منطقة القبائل إثر اندلاع مشادات بين سكان المنطقة وقوات الأمن خلف في النهاية 126 ضحية في ربيع سنة 2001 لقب بالربيع الأسود· وتطورت الاحتجاجات الشعبية فيما بعد لتأخذ منحى اجتماعيا، وهو السبب الذي اهتزت له منطقة بريان بولاية غرداية في مارس ,2007 بسبب ألعاب نارية أدت فيما بعد إلى تطور الأمور إلى تنازع اجتماعي بين الإباضيين والمالكيين، وقدمه بعض الأطراف على أنه نزاع فكري وعقائدي، ونقل الصراع إلى الشارع المزابي ليخلف في النهاية ثلاثة قتلى وآلاف الجرحى ومدينة مشلولة ومفتوحة على كل الاحتمالات· نفس مظاهر الغليان الشعبي هزت ولاية الشلف في مارس ,2008 احتجاجا على استمرار معاناة سكان شاليهات المقيمين بها منذ زلزال 10 أكتوبر ,1980 وقد خلفت هذه الاحتجاجات أيضا ملايير الخسائر واضطرت السلطات إلى تغيير والي الولاية، محمد الغازي، كإجراء أولي لتهدئة الوضع المحتقن، ثم اتخذت إجراءات تقنية ومالية عملية تأخذ بعين الاعتبار شرعية مطالب السكان· كما تكرر نفس سيناريو الغضب الشعبي بولاية ورفلة في خريف ,2007 حركه البطالون احتجاجا على ارتفاع معدلات البطالة ومنح فرص التشغيل بالولاية للوافدين من الشمال، خاصة بشركة سونطراك، على حساب اليد العاملة المحلية، وتوجت الاحتجاجات بإقرار مطالب السكان وتقنين توظيف اليد العاملة عبر وكالات التشغيل، وليس المؤسسات الخاصة العاملة من الباطن· ولم تقتصر الاحتجاجات على عموم السكان، بل تحولت إلى النقابات المستقلة، التي نظمت عدة احتجاجات حتى أمام رئاسة الجمهورية وقصر الحكومة، ونفس السلوك الاحتجاجي يكرسه أنصار الفرق الرياضية الذين يأتون على الأخضر واليابس في حالة انهزام فريقهم· أجمعت على تراجع كبير في المكاسب المحققة الطبقة السياسية تطالب بالعودة إلى المسار الذي رسمته أحداث 5 أكتوبر حسان حويشة أجمعت تقديرات الأحزاب السياسية على أن أحداث 5 أكتوبر كانت عاملا في التوجه نحو التعددية والانفتاح، وأن المكاسب التي تحققت عقب الأحداث تم التراجع عنها، مطالبة بالعودة إلى المسار الذي رسمته تلك الأحداث، لرفع الغبن والتهميش الذي يعاني منه المواطن· حمس: المكاسب أجهضت في مهدها بعد سنوات الفوضى والإرهاب اعتبرت حركة مجتمع السلم أن المكاسب التي تحققت بعد أحداث 5 أكتوبر 88 أجهضت في مهدها بعد انزلاق البلاد إلى الفوضى والعنف والإرهاب· وقال الناطق الرسمي للحركة، محمد جمعة، في تصريح ل''الفجر''، إن فرضية اليد الخفية التي حركت الأحداث، منها حزب جبهة التحرير الوطني، تبقى مطروحة بشكل فعلي، والتاريخ وحده سيفصل في ذلك· وأضاف جمعة أن الأمل الذي تولد لدى الشباب بعد الأحداث زال تماما من مظاهر الحياة، خصوصا مع ممارسة نوع من الغلق من طرف السلطة، وهي مترجمة الآن في سلبية الشباب وعزوفهم وتطليقهم للسياسة بالكامل، معتبرا أن البلاد بحاجة إلى هزة مماثلة، لكن ليس عن طريق العنف والشغب، ولكن عن طريق الحلول السياسية· حزب العمال: الممارسة الديمقراطية الفعلية ما زالت بعيدة وقدر حزب العمال أن الممارسة الديمقراطية الفعلية في الجزائر ما زالت بعيدة، وأنه من المفروض أن تفتح الحياة السياسية وتأخذ مجراها، خاصة وأنها كانت السبب في انتفاضة الشباب· وقال الناطق الرسمي للحزب، جلول جودي، إنه يجب العودة إلى المسار الذي رسمته تلك الأحداث وما عاشته الجزائر من انفتاح لبعض الوقت، مشددا على ضرورة إصلاح سياسي حقيقي بفتح المجالات، كحرية التعبير، وفتح نقاش وطني شامل· الأفافاس: ما يعيشه الشباب الآن تراجع عن مكاسب وتضحيات 5 أكتوبر واعتبرت جبهة القوى الاشتراكية أن ما يعيشه الشباب الجزائري اليوم من تضييق للحريات، وصعوبات اجتماعية واقتصادية، تراجعا عن مكاسب وتضحيات الشباب في الخامس من أكتوبر ,88 وأن المكاسب التي تحققت في مجال الحريات والنقابات والنشاط السياسي تبخرت مباشرة بعد توقيف المسار الانتخابي في جانفي .92 وقال الأمين العام المكلف بالعلاقات المغاربية في جبهة القوى الاشتراكية، أحمد بيطاطاش، في اتصال مع ''الفجر''، إن أحداث 5 أكتوبر كانت عبارة عن رسالة تغيير من الشباب الجزائري، وأنه لا يهم الحديث حول ما إذا كانت هناك أطراف خفية حركتها، بقدر ما هي رسالة واضحة من الشباب بضرورة تغيير النظام آنذاك، والذي فشل في تحقيق تطلعاتهم دون أدنى حد من الحريات· فيما خرجوا انتقاما من نظام الحزب الواحد ودعوا إلى المشاركة في صنع القرار مشروع شباب 5 أكتوبر مازال قائما رغم صدمة الأزمة الأمنية ياحي·ع تمر اليوم 21 سنة على انتفاضة 5 أكتوبر 1988 التي أفرزت التعددية السياسية والنقابية، وفسحت المجال للممارسة الديمقراطية، التي قيل إن الشباب خرج للشارع من أجل تحقيقها بعد أن سئم من نظام الحزب الواحد، ولا نعني هنا جبهة التحرير الوطني، التي وإن قيل عنها ما لا يليق بمقامها، إلا أن المشهود لها أنها حققت مسيرة كبيرة في سبيل إقرار الديمقراطية والتعددية في البلاد، من خلال سهر قياداتها على إحداث التعددية وإعلان بداية الديمقراطية· لقد حققت أحداث الخامس أكتوبر 1988 نقلة في نظام الحكم والممارسة السياسية في الجزائر بما جعلها الرائدة بين الدول العربية في سلوك الاتجاه الديمقراطي داخل المجتمع، وسمحت بظهور الأحزاب السياسية والنقابات المستقلة والصحافة الحرة، وغير ذلك من الممارسات الديمقراطية التي تعتبر مكاسب تلك الأحداث، ودفعت إلى حدوث تغيير كبير في المجتمع على جميع الأصعدة في صورة الدول المتقدمة ديمقراطيا، غير أن ذلك لم يحل دون وقوع صدمة وسط الشارع، الذي راهن على مكاسب 5 أكتوبر للوصول إلى مصاف الدول المتقدمة، بعد أن انزلقت الأمور إلى ما عرفته البلاد من أزمة أمنية كادت تعصف بمقومات الأمة، بعد انتخابات تعددية سنة ,1991 وما تبعها من أحداث متسارعة أوصلت البلاد إلى نفق مظلم، جعل الاختيار بين الحفاظ على كيان المجتمع الجزائري أو مكتسبات 5 أكتوبر أمرا ضروريا يميل إلى إعطاء الأولوية للحفاظ على كيان البلاد· ويقيم المراقبون مسيرة الديمقراطية في الجزائر على أنها مكسب دفع إلى التفتح على العالم ومسايرة الأحداث الدولية، رغم النقائص التي تحول دون اعتمادها بطريقة أكثر وضوحا، بسبب حالة الطوارئ من جهة، والمتغيرات الخارجية من جهة أخرى، إلا أن ذلك لم يثن الطبقة السياسية من محاولات مواصلة المشوار، باعتبار أن المعوقات تبقى ضرورية لتحقيق ما يتطلع إليه شباب الخامس أكتوبر، خاصة مع التقدم الملحوظ على جميع الجبهات، داخليا وخارجيا، وما مصادقة الجزائر على المعاهدات الأممية الخاصة بحقوق الإنسان والحريات إلا دليلا يضاف إلى النية في الاستمرار في نهج هؤلاء الشباب رغم النقائص التي تستغلها أطراف داخلية وخارجية لأغراض مبيتة، تفطن لها الشباب بعد تجربة 21 سنة· لقد خرج شباب 5 أكتوبر انتقاما على ممارسات الحزب الواحد، طالبين انفتاحا سياسيا ونقابيا وإعلاميا يجعل الفرد الجزائري يشارك في صنع القرار، غير أن الأحداث أثبتت عجز الأحزاب السياسية التي ركبت موجة الانتفاضة واستثمرت فيها، على تحقيق مطالب الشباب الداعية إلى مشاركة واسعة والتقدم بالبلاد إلى مصاف الدول الكبرى، من خلال ممارسة ديمقراطية بكل ما تعنيه الكلمة، وهو ما لم تحققه الأحزاب التي أصبح يرى فيها الشارع وسيلة للوصول إلى المناصب العليا وتقاسم الريع وحسب، أو تحقيق أغراض ليست ضمن انشغالاته، جعلهم ينفرون من ممارسة السياسة وحتى العزوف عن المشاركة في الاستحقاقات الوطنية، ووصل الأمر بهم في نهاية المطاف وبعد تلمس كل التجارب والمشاريع السياسية إلى الالتفاف حول برنامج الدولة الحالي، المتمثل في برنامج رئيس الجمهورية النابع من عمق المعاناة والآفاق والتطلعات، والذي نجح إلى حد