استبد بي القلق جراء الأخبار المزعجة التي تعلن تباعا في وسائل الإعلام•• من حديث عن نسبة غياب تام للسلطة في هذه الأيام إلى تهديد العمال في قطاعات حيوية بشل البلاد بإضرابات بعد اتهام الحكومة بالتراجع عن وعودها بشأن الزيادات في الأجور بأثر رجعي وإقرار العلاوات المعلنة! إلى الحديث عن السرقات والاختلاسات التي طالت وزارات حيوية إلى الأحكام التي تصدرها العدالة تباعا وتخص قمع الفساد! كل هذا أدى بي إلى الأرق بعد قراءة طزينة من الصحف المختلفة المشارب! فرحت في غسق الليل أبحث في المكتبة الخاصة عن نص أدبي أريح به أعصابي! ولسوء حظي وقعت يدي على مسرحية لتوفيق الحكيم كتبها قبل 60 سنة تقريبا، فرحت ألتهمها بالقراءة وكأنني أقرؤها لأول مرة رغم أنني قرأتها منذ 40 سنة أو أكثر! وشاهدتها ممثلة على خشبة المسرح أيضا! المسرحية تحت عنوان ''السلطان الحائر'' وأظن أنه اقتبسها عن احدى روائع الأدب الفرنسي! ملخص المسرحية أن سلطانا عادلا وصل إلى الحكم في السلطنة بطريقة غير شرعية•• ولكنه أقام العدل والحكم الراشد في السلطة إلى درجة أن الشعب ورجال الحكم ورجال الدين والعلم والثقافة قد أحبوه لعدله وبراعته في إدارة شؤون السلطة، ورغم ذلك بقي هذا السلطان العادل حائرا لأنه كان عبدا وحاجب السلطان عندما توفي واستلم هو سلطنة البلاد دون أن يتم عتقه من العبودية! لذلك قال مفتي السلطنة وقاضي قضاتها لهذا السلطان الحائر: ''إن الإسلام يشترط أن يكون المترشح لتولي السلطنة أو إمامة البلاد أن يكون حرا وليس عبدا•• ومادام هذا السلطان العادل قد تولى أمر السلطنة وهو في حالة العبودية فإن حكمه (رغم عدله ورضى الناس عنه)•• يبقى خارج الشرعية! وأراد لسلطان العادل والحائر أن يصحح وضعه الشرعي، فجمع علماء وفقهاء السلطنة وطلب منهم البحث عن حل لإصلاح هذه الوضعية ! فاقترح عليه كبار الفقهاء بأن الحل هو عودة السلطان إلى حالة العبودية كما كان قبل توليه أمور السلطنة، ثم يعتق من العبودية ويعود إلى السلطنة كسلطان حر وليس السلطان العبد كما هو حاله في الحاضر! وقال له الفقهاء، لابد أن تبحث عن ورقة السلطان الذي كان يملكك كعبد•• وأن تطلب منه أن يعتقك لتعود سلطانا حرا! وبحث السلطان الحائر عن ورثة من كان يملكه، فلم يجد أي وريث! وعندها قال له الفقهاء•• فأنت إذن ملك للسلطنة ولبيت مال المسلمين في السلطنة! ولابد أن يبيعك أمين بيت مال المسلمين في السلطنة في السوق بالمزاد العلني ثم يعتقك من يشتريك لتصبح حرا وتتولى السلطنة وفق ما ينص عليه الشرع! وسيق السلطان إلى السوق ليباع بالمزاد العلني ثم يعتق بعد ذلك من طرف من يشتريه! ولكن التجار لما رأوا رجال الدولة يبيعون سلطانهم في السوق وفي المزاد العلني، زهدوا في شرائه وقالوا لو كان هذا السلطان له قيمة في السلطنة لما أقدم رجال الدولة على بيعه في المزاد العلني كعبد حقير! فلم يسم السلطان العبد أي تاجر•• ولم يجد من يشتريه! وعرفت الأمر إحدى مومسات السلطنة التي كان يأمر السلطان بجلدها كلما ضبطت تمارس الرذيلة فرق قلبها للسلطان•• وتقدمت لشرائه واشترته بأموال البغاء وأخذته إلى مخدعها الذي كانت تمارس فيه الأفعال التي يجلدها بسببها هذا السلطان قبل أن يعرض للبيع في سوق النخاسة! وبات السلطان الحائر الباحث عن الشرعية في تولي السلطنة عند المومسة! وفي اليوم الموالي طلب رجال الدولة والفقهاء من المومسة بأن تعتق السلطان ليعود إلى قيادة السلطنة! لكن المومسة رفضت عتق السلطان! وقالت لرجال الدولة: هذا السلطان ملكي ولن أتنازل عنه! وهل هناك من يملك سلطانا ويتنازل عنه للدولة إلا إذا كان مجنونا! مثل رجال السلطنة الذين سوّلت لهم أنفسهم بأن يبيعوا سلطانهم في المزاد العلني ثم زهدوا في شرائه! وهدد رجال الدولة في السلطنة هذه المومسة بالقتل إذ هي لم تقم بعتق السلطان من العبودية؟! ولكن السلطان العبد نهرهم قائلا: قتلها سيبقيني عبدا ويعقد المشكلة! وعرض أمين بيت مال المسلمين في السلطنة على المومسة كل أموال السلطنة مقابل عتق السلطان العبد! لكن المومسة رفضت العرض بحجة أنها اشترت السلطان العبد من حر مالها الحلال الذي كسبته من عرض جسمها للبيع أو جلدها من طرف رجال السلطنة باسم الشرف والعفة والأخلاق والقانون•• وأن مال السلطنة الذي يعرض عليها من طرف رجال الدولة هو مال حرام جمع من قوت الغلابة كضرائب وإتوات! وأنها لا تريد أن تدخل المال الحرام إلى بيتها رغم أنها مومسة! بقيت مع هذه المسرحية حتى مطلع الفجر وكأنني أقرؤها لأول مرة! وأقرأ من خلالها أزمة السلطة في الجزائر•• التي هي أزمة شرعية في الوصول إليها تماما مثل حال السلطان الحائر! لهذا عرفت الجزائر 5 دساتير في 50 سنة•• أي كل 10 سنوات يأتي دستور جديد! ولكن لا يوجد أي دستور من هذه الدساتير تصدى لمشكل الشرعية وهي المشكلة الأساسية التي لم تسمح بميلاد دولة المؤسسات ودولة القانون كما حلم بها الشهداء! وهذه المشكلة هي التي تركت كل الرؤساء الذين مروا على الجزائر•• لا يختلفون عن وضعية السلطان الحائر الذي يبحث عن الشرعية وينتهي به المطاف لأن يعزل أو يموت أو يقتل أو يسجن! لذلك يصف بعضهم الدعوة إلى إجراء انتخابات تأسيسية لحل مشكلة الشرعية في البلاد وبمثابة بيع السلطان الحائر لنفسه في سوق النخاسة وتسليم أمره في النهاية إلى مومسة؟!