، في هذا اللقاء مع ''الفجر''، عن خلفية اقتراحه الأخير لتخصيص يوم للجمهورية، وبعض القضايا التاريخية التي خرجت للساحة مؤخرا، وكذا الوضع العام للجزائر في ظل الظروف الراهنة، الداخلية والخارجية، والخلافات الأخيرة الحاصلة داخل بيت الأفالان••• نبدأ من آخر محاضرة قدمتها بالمتحف الوطني للمجاهد، والتي اقترحت فيها مشروع تخصيص يوم 17 سبتمبر ,1958 عيدا أو يوما للجمهورية، فلماذا هذا الاقتراح وفي هذا الوقت تحديدا؟ في الواقع هي عودة لقراءة معمقة لأحداث الثورة، تجعل تاريخ إعلان الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، 17 سبتمبر ,1958 والذي جرى التعتيم عليه لأسباب سياسية، حدثا هاما باعتباره كان منعرجا حاسما في تاريخ الثورة، أعاد الدولة الجزائرية للوجود بصفتها دولة جمهورية والحكومة المؤقتة حكومة لها• وعدم التمعن في قراءة الحدث ترك الخلافات السياسية تطغى عليه، وربما كانت الأحداث السياسية التي رافقت إعلان الاستقلال بانتهاء اتفاقيات إيفيان محل نقاش سياسي ومحل اختلاف وجهات نظر• ثم امتد الخلاف حتى شمل الأشخاص، ليتعداه حتى شمل الحدث في حد ذاته، فعتّم عليه، بينما هو يوم عودة الدولة الجزائرية للوجود، فقرار الاعتراف لم يكن من قبل قيادة الثورة، بل زكي من قبل 36 دولة من بينها دولة الصين الشعبية العظمى وهي دولة عضو في مجلس الأمن، إضافة إلى الاتحاد السوفياتي آنذاك، كما أن هذا القرار جعل من الجزائر حاضرة بين الدول ومكنها من أن تبرم اتفاقيات دولية خاصة بقضيتها• من جهة أخرى، وبعد إعلان الحكومة المؤقتة، جاء تصريح ديغول بتقرير المصير للجزائريين وكان من بين الأهداف التي تسعى إليها فرنسا، محاولة استعادة المبادرة الفرنسية، فقامت بالحيلولة دون تسلسل الاعتراف بالحكومة المؤقتة، بهذا التقرير، ومن المفارقات أن الذين عارضوا اتفاقية إيفيان - ربما لأسباب وجيهة - دفعهم هذا الاعتراف إلى نظرة غير صحيحة للحكومة المؤقتة، ما يجعلنا اليوم نتساءل عن تاريخ ميلاد الدولة الجزائرية الحديثة قانونيا، هل هو 17 سبتمبر ,1958 أم 19مارس 1961؟ عندما تفاوضنا مع ديغول على تطبيق تقرير المصير الذي انتهى باتفاقية إيفيان، كنا نعتبر أنفسنا ممثلي الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، والوفد المفاوض وفد للحكومة المؤقتة، والفرنسيون كانوا يعتبروننا وفد جبهة التحرير، وتكريسا لهذا التشبث بأن الدولة مُعترف بها من طرف الكثير من الدول في 17 سبتمبر 1958 اقترحت أن نخرج من هذا المقاربات غير السليمة والسطحية ونجعل يوم 17 سبتمبر ,1958 يوما للجمهورية، ويوم 19 مارس يوما للانتصار ويوم 5 جويلية يبقى إعلان استقلال الجزائر، وهكذا يكون الانسجام في نظرتنا للتاريخ وفي تعاملنا مع أحداثه• لكن وفي خلال المحاضرة نفسها، لاحظنا عدم رضا جل المجاهدين المتواجدين باقتراحكم، بمن فيهم أحد مؤسسي الحكومة المؤقتة، لمين خان، الذي عارضك بشدة؟ الوفد الجزائري المفاوض هو الذي اقترح 5 جويلية كعيد للاستقلال، وهناك رفض الوفد الفرنسي هذا التحديد، لأن فيه دلالة رمزية، على يوم 5 جويلية ,1830 يوم نزول قوات الاستعمار بسيدي فرج، فلم يقبلوا هذا التاريخ، واقترحوا 2 أو 3 جويلية كيوم للاستقلال، لكن من الناحية العاطفية قررنا أن نحتفل به يوم 5 جويلية، تأكيدا على المعنى الرمزي للثورة والمقاومة، وهو الاستقلال في نفس يوم دخول المستعمر• هل يعود عدم التوافق في الآراء وعدم الإجماع على المعطيات التاريخية - في نظرك - إلى القطيعة والخلافات التي حدثت بعد الاستقلال؟ موضوع القطيعة والاختلاف يحتاج إلى شرح طويل، ونقطة الخلافات السياسية من المفروض أن تبقى في مجال ضيق، لكن - مع الأسف - تجاوزتها إلى أشخاص• لكن هذه الخلافات جرّمت بعض الشهداء، واتهمت بعضهم بالخيانة، مثل كريم بلقاسم، عبان رمضان، مما تسبب في تشويه أحداث الثورة العظيمة؟ يا ابنتي، هذا التاريخ صنعه بشر، كان نضالا مسلحا وسياسيا وكان ثمرة لجهد عام قام به الشعب الجزائري، وكون بعض أبناء الجزائر تحملوا مسؤولية القيادة، فهذا لا يخرجهم عن كونهم بشر، يخطئون ويصيبون، والتاريخ ليس شخصا بما له وما عليه، بل هو تجربة عامة، فلما يأتي أشخاص مهما كانت قيمتهم ويعلنون بدء الكفاح المسلح، يبقى الشيء البارز هو الكفاح المسلح، وتتضاءل قيمة الأشخاص أمام الحدث، ولما يعلن أشخاص عودة الدولة الجزائرية إلى الوجود في 17 سبتمبر، مهما كانت المآخذ عليهم، فالأجيال يهمها الحدث، أي كيف تعاملت قيادة الثورة؟ وكيف أتت بالاستقلال؟ وكيف قامت بالتفاوض، وأتت بالاعتراف والإقناع؟ المهم التجربة واستخلاص الدروس منها• أما تصفية بعض الأشخاص على أنهم خونة، فتبقى خصومات والخصومات أمام التاريخ وأمام الحدث تتضاءل، وإذا دخلنا في الحكايات الشخصية نعطي صورة مشوهة عن الثورة، هذه أشياء ينساها التاريخ ومجرد النظر للتاريخ من خلال الأشخاص يعد تقزيما للحدث• لكن لماذا تثار هذه القضايا الخلافية المتعلقة بتاريخ الثورة في هذا الوقت بالذات؟ الجدال دائما حاضر، يظهر حينا ويختفي في أحيان أخرى•• ورجاء لا أريد الخوض في هذه الأمور• نأسف على الخوض في مثل هذه الإشكالات التي تراها ثانوية، لكن آراء كثيرة تجمع على أن التاريخ الجزائري الحديث يحمل الكثير من المغالطات التي يجب على صناع هذا التاريخ تصويبها••• أصلا التاريخ لم يكتب بعد، وكتابة التاريخ بحاجة إلى نظرة جديدة تنطلق من الحقيقة التاريخية، التي تخدم المصلحة العامة، والقراءة الصحيحة للتاريخ ضرورية، حتى إذا كتب التاريخ بطريقة نزيهة وموضوعية، فالقراءة الواعية ضرورية، لأن تاريخنا مازالت تتحكم فيه الأهواء السياسية• على ذكر كتابة التاريخ، نعلم أنك بصدد كتابة مذكراتك الشخصية، ما الذي يمكن لهذه المذكرات أن تحمله من مفاجآت؟ كتابة مذكراتي هو مشروع قائم، ولم أوشك على نهايته بعد، بل مازال في بدايته، ثم لم أحدد بعد الطريقة التي سأكتبها بها، وسأدع كل شيء لوقته الأفضل• نعود إلى قضية حزب جبهة التحرير الوطني•• قلت يوما إن ''الحزب ذهب كمشروع وبقي كرمز''، كيف تقيم أداء الحزب في الأيام الأخيرة، ثم ما هي قراءتك للخارطة الحزبية في الجزائر؟ لا يمكن النظر إلى حزب جبهة التحرير الوطني ووضعه بمعزل عن الوضع العام للبلاد، ومعروف لدى الجميع أن الحزب كان ولا يزال امتدادا للسلطة• الأفالان بحاجة اليوم إلى إعادة نظر في طريقة تسييره على أرضية مشروع شمولي جبهوي وليس على أرضية مشروع أشخاص• هل نفهم من قولك أن الجدل القائم اليوم في حزب جبهة التحرير الوطني، ليس جدلا سياسيا، وإنما هو جدل من أجل المناصب؟ شخصيا أنا قريب من الجبهة وقريب من ''معضلة الأفالان''، لكن لا أدري لماذا هم متخاصمون، وأسوء ما في هذا الخلاف أنه غير واضح! كل ما يمكن قوله هو إن الأفالان يتخبّط في مشكلة أشخاص وهو بحاجة اليوم إلى إعادة نظر سياسية• هل ستحضر المؤتمر القادم للحزب، أم أنك ستغيب عنه؟ وجّهي سؤالك هذا إلى المنظم والقائم على المؤتمر، والمؤتمر لا يحضره من يريد الحضور، بل من يدعى للحضور، أما هل غيّبت عنه أم لا؟ فأقول إن التاريخ وحده كفيل بالإجابة عن هذا السؤال• ما رأيك في مصطلح ''بقايا الأحزاب''؟ واضح جدا أن كل الأحزاب لا تحظى بقدر من الثقة، ولو كانت الأوضاع طبيعية في البلاد لكان الأمر مغايرا، فالمناضلون في كل حزب يشعرون بأن الشعب غير راض عن حزبهم وكذلك عن الأحزاب الأخرى• وما هو تقييمك لأداء مؤسسات الدولة بعد التعديل الدستوري؟ في تقديري، النظام القائم الآن نظام ديمقراطي، صوري، شكلي، ديمقراطي في الواجهة وجوهره غير ديمقراطي، ومحاولة الجمع بين هذين النظامين هو جمع للسلبيات بين كل نظام• فالنظام السلطوي غير الديمقراطي هو جوهر النظام، والديمقراطية واجهته، نظام جعل مؤسسات الدولة عاجزة عن حل مشكلات البلاد• ما هو تقييمك للوضع العام والاقتصادي والثقافي في الجزائر؟ الناس غير راضين عن الوضع العام للبلاد، ولا أعتقد أن عدم الرضا هذا يمس فئة دون أخرى• هناك مشاكل حقيقية والشعب يحس بها، وإذا كان عدم الرضا عاما معناه أن هناك مشكلا سياسيا أساسيا، فأنا أسمع وأقرأ أن كثيرا من الاقتصاديين غير راضين عن الوضع الاقتصادي، وكثيرا من المثقفين غير راضين عن الوضع الثقافي، وأظن أن أسباب السخط العام قد تجمعت الآن، وقد أصبح لزاما على الدولة الالتفات إلى الشعب وفتح المجال أمامه، من خلال نواب منتخبين حقيقيين، لا مجرد ''كمشة'' من رافعي الأيدي• برزت على الساحة مؤخرا الكثير من قضايا الفساد، فهل هي في نظرك نتاج تصرفات فردية أم هي نتاج وضع عام؟ الفساد ليس قضاء محتوما، بل هو تحصيل حاصل لنظام حكم غير سليم، نظام غير قادر على منع حدوث الفساد• الفساد موجود في كل المجموعات البشرية، لكن إذا زاد بالقدر الذي نراه، فهذا مؤشر على أن الغربال الذي هو نظام الحكم مثقوب، فإذا كان هذا الغربال الذي يصفي أعمال الناس والمسؤولين بصفة خاصة، فاسدا، فلا بد من تغييره• لو كنت انتخبت رئيسا للجزائر في هذه الفترة، ما هو أول شيء ستلجأ لتغييره؟ أولا لا أرضى أن أكون رئيسا، فأول شيء سأغيّره أستقيل أو أتنحّى، يعني أغيّر نفسي، لأنه لا يجب أن أكون أنا أو أي أحد من جيلي رئيسا لهذه البلاد، ولا ينبغي لجيلي أن يكون في الحكم، بل يلزمنا فسح الطريق لجيلكم الذي ينبغي أن يقوم بمهامه التاريخية• من وجهة نظرك، هل وضعنا الإقليمي مطمئن؟ أنا غير مطمئن، لأن التحديات المحيطة بنا كبيرة جدا، ولا أعتقد أننا هيّئنا الأسباب لمواجهة هذه التحديات• هل تؤمن بوجود حرية التعبير في الجزائر؟ قلت لك سابقا إن مؤسسات الدولة بنيت على ديمقراطية واجهة، فالحريات الحقيقية غير موجودة، وما هو موجود صوري شكلي، وأنا أتحدث عن تجربة، ومجرد أن تطرحي علي هذا السؤال، وأنت في الميدان، معناه أن الحريات منعدمة، وإذا كانت الحريات محل تساؤل والناس تتساءل عن وجودها من عدمه، فهذا دليل على أنها غير موجودة• ما هي علاقتك برئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة؟ أنا مواطن جزائري بسيط، ولا علاقة خاصة لي مع الرئيس، تجمعنا صداقة قديمة وأقدر مساره النضالي• كنا نعتبر أنفسنا ممثلي الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، والوفد المفاوض وفد للحكومة المؤقتة، والفرنسيون كانوا يعتبروننا وفد جبهة التحرير، وتكريسا لهذا التشبث بأن الدولة مُعترف بها من طرف الكثير من الدول في 17 سبتمبر 1958 اقترحت أن نخرج من هذا المقاربات غير السليمة والسطحية ونجعل يوم 17 سبتمبر ,1958 يوما للجمهورية، ويوم 19 مارس يوما للانتصار ويوم 5 جويلية يبقى إعلان استقلال الجزائر، وهكذا يكون الانسجام في نظرتنا للتاريخ وفي تعاملنا مع أحداثه• الناس غير راضين عن الوضع العام للبلاد، ولا أعتقد أن عدم الرضا هذا يمس فئة دون أخرى• هناك مشاكل حقيقية والشعب يحس بها، وإذا كان عدم الرضا عاما معناه أن هناك مشكلا سياسيا أساسيا، فأنا أسمع وأقرأ أن كثيرا من الاقتصاديين غير راضين عن الوضع الاقتصادي، وكثيرا من المثقفين غير راضين عن الوضع الثقافي، وأظن أن أسباب السخط العام قد تجمعت الآن، وقد أصبح لزاما على الدولة الالتفات إلى الشعب وفتح المجال أمامه، من خلال نواب منتخبين حقيقيين، لا مجرد "كمشة" من رافعي الأيدي.