رُبَّ ضارة نافعة•• مثل ينطبق على الكثير من الطاقات الفكرية والفنية التي هجرت الجزائر لأسباب شخصية عامة وأخرى خاصة تتعلق بالعشرية الدامية•• سيد أحمد أفومي ومحمد فلاف وزياني شريف عياد وأمينة مجوبي زوجة الفقيد عزالدين• وواسيني الأعرج وزوجته زينب، وبهجة رحال وياسمينة خضرة - محمد مولسهول - من الأسماء الفنية والأدبية الكبيرة التي استطاعت أن تشرف الإبداع الجزائري في أكثر من مناسبة في فرنسا وفي بلدان أوروبية وعربية أخرى، ناهيك عن ربطها المهاجرين بوطنهم الأم على مدار السنة وفي شهر رمضان المبارك بوجه خاص • المطربة الأندلسية نسيمة أو نصيرة شعبان- اسمها العائلي الحقيقي- ابنة مدينة الورود البليدة الحضارية واحدة من هذه الأسماء التي تألقت في أكثر من مناسبة في فرنسا وفي دول أوروبية أخرى منذ تاريخ إقامتها في العاصمة الفرنسية عام 1994 • في حفلها الأخير الذي قدمته نسيمة في المركز الثقافي الجزائري بدعوة من مديره الروائي ياسمينة خضرة بمناسبة صدور ألبومها الجديد ''جذور وغناء'' أكدت صاحبة البشرة الخمرية والإطلالة التراثية الأصيلة أنها فنانة غير تقليدية، كما يمكن أن يفهم من مسارها الفني الطويل المرتبط بالنوع الأندلسي الخالص الذي عرفته مدينة البليدة مسقط رأسها وحاضنة كوكبة معروفة من الفنانين الكبار• ظهور نسيمة أمام الجمهور الجزائري وبعض الفرنسيين الذين أصبحوا مدمنين على تذوق أغانيها•• عكس هذه المرة تطورا فنيا أملته ظروف الغربة المفروضة من ناحية وطبيعة الجمهور وحتمية مسايرة معطيات السوق غير المنفتح تجاريا بالقدر الكافي على الأغنية الاندلسية• الأغاني التي تجاوب معها الجمهور النسوي نطقت بروح التطوير الحذر والمحسوب على النحو الذي يضمن استمرارية فنية تحافظ صاحبتها على هويتها الأصلية في ظل تجديد قائم على توظيف ذكي للصوت والموسيقى على حد سواء• تجسيدا لهذه التوليفة الصعبة••أدت نسيمة أغاني''يا نجوم الليل'' للراحل سليمان عازم، و''هجرت بلادي'' التي كتبت كلماتها ولحنتها ''وايافروخ ايفريلس''، يا خطاف يا بلادي، والعروسة، وما عندي زلة ووطيري طارونساء كل الالوان ومافواني سهران، ويا حمام، وراح الغالي، وأخيرا ختن يا ختان• المستمع لهذه المجموعة المشكلة لألبومها الجديد يكتشف بسهولة خلفية التنويع الموزع بين الشكل والمضمون بعيدا عن الشكل الأندلسي التقليدي• وفي هذه الباقة المنتقاة بوعي•• عانقت نسيمة محنة الغربة من خلال تكريم أحد كبار ممثلي الاغنية القبائلية في المهجر ألا وهو سليمان عازم، ومجدت الوطن المفقود والنساء واحتفت بتقاليد العرس والختان وببعض رموز الأغنية الشعبية والحوزية، وأكدت أن خروجها المفروض عن النوع التقليدي لم يضر بهويتها الأصلية لأنه لم يشوه نبرتها العذبة وإطلالتها التراثية وأدواتها الموسيقية• التوفيق المستهدف بين الأصل والإضافة العصرية الجديدة كان مفروضا على نسيمة، التي وجدت نفسها أمام جمهور جزائري قح يريد الإيقاع الراقص والأغنية التي تعيده إلى أحضان الماضي والذاكرة، وكانت واقعية وانتهازية بالمفهوم الوظيفي للكلمة• نسيمة التي لم تصبح مغنية راي تحت وطأة رواجه في فرنسا في الأوساط الجزائرية والفرنسية •• وفضلت شد العصا من الوسط بالتحايل على السوق والجمهور العام والخاص دون التضحية بهويتها الحضارية التي جعلت منها إحدى سفيرات الأغنية الأندلسية الجزائرية في العالم • كاتب هذه السطور الذي حضر حفلها في بودابست بمناسبة الاسبوع الثقافي الجزائري في المجر عام ,1986 وحفلها الأخير بمسرح المدينة بباريس في شهر مارس الماضي•• يؤكد أنها واعية بهامش تجديدها العصري المحدود في الزمان والمكان لأسباب قاهرة أملتها ظروف ومعطيات سوسيولوجية وتجارية جديدة، ولعلها توافقني إذا قلت إن إدارة مسرح المدينة الباريسي الشهير الذي برمجها عدة مرات منذ عام 1994 لا يقدم ولا يكرس إلا الأصوات الأصيلة الممثلة لهوية حضارية وإبداعية حقيقية، والجمهور الفرنسي الذي انتشى بصوت نسيمة وبإيقاعات آلات فرقتها في مطلع التسعينيات هو نفسه الذي جاء إلى مسرحه المفضل في الربيع الماضي للاستماع إلى نسيمة الاصيلة بشكلها الحضاري القديم والعصري الجديد• أخيرا وليس آخرا••• جددت نسيمة لغويا وغنت ''ايافروخ ايفيرليس'' بالبربرية بنطق غير سليم، كما قالت لي جارتي البربرية القحة و- نساء كل العالم - باللغة الفرنسية لكن بنطق سليم• في حدود قراءتي لهذه الخرجة اللغوية•• وحتى لاتضاف إلى قائمة فناني حزب فرنسا كما يقول البعض عن كل من يختار فرنسا للعيش•• من الأجدر أن تؤدي أغنية ''نساء كل العالم'' بأكثر من لغة أجنبية استنادا لمضمونها الإنساني الذي دعت فيه الجنس اللطيف إلى دعم السلام والمحبة ورفض الظلم•