يمنحك الجلوس إليه متعة الحديث وحسب، ولكنه يمنحك إطلالة على الدنيا بأسرها، فاتحاً لك آفاقاً من الفكر•• يصطحبك معه فى واحات الثقافة عبر سنوات عمره التي جاوزت الثمانين بخمس سنوات•• كل هذا وهو حاضر البديهة، متّقد الذهن، متيقّظ الذاكرة، راسم على وجهه ابتسامة تتسع بدعابة تمنحك الضحك، وتضيق مع حديث جاد أو ذكرى مزعجة، أو ألم شعر به• الحديث مع أنيس منصور لا يتوقف فقط عند حاجز الذكريات والأحداث التاريخية، ولكنه يقفز بك أيضاً إلى الحاضر، فيفسره لك بنظرة المتأمل، الذي يرفض الإغراق في التشاؤم، أو الإفراط في التفاؤل، لتلقي عليه نظرة واقعية تجعلك تفكر في الوطن والمواطن• تولّدت رؤيته التاريخية من خضم الأحداث التي عاشها، ما بين عضويته بجماعة الإخوان المسلمين، ونقده اللاذع للرئيس عبد الناصر الذي يرى أن أخطاءه وهزائمه أكثر من انتصاراته، ومصاحبته الرئيس السادات الذى يرى فيه الزعيم صاحب الرؤية••• وعن توصيفه لمصر الآن بأنها كالجسد الذي أنهكه المرض، فصار التضرع لله لشفائه، أو البحث عن دواء له، رفاهية لا فائدة ترجى منها، وتأكيده أن الفساد يبدأ من الحاشية المحيطة بالحاكم وحول ما حدث بين مصر والجزائر بسبب مباراة كرة قدم، كان الحديث مع الكاتب أنيس منصور في منزله المطل على النيل في الجيزة• يستقبلك باشَّاً مرحباً، يسبقه كلبه الصغير وكأنه يشارك في عملية الترحيب، ومنذ اللحظة الأولى يبدأ الفيلسوف والكاتب أنيس منصور فى الانتباه لك وقد استعد للإجابة عن كل أسئلتك، معه لا مكان للمحظورات• كيف ترى ما يحدث الآن بين مصر والجزائر عقب المباراة التي جرت بينهما في السودان؟ وهل حقاً يكرهنا العرب؟ - لا مكان في السياسة للحب أو الكراهية، فتلك مشاعر لا يعرفها السياسيون، هم يتحدثون فقط بلغة المصالح، وما حدث في العلاقات المصرية - الجزائرية من توتر نتيجة مباراة كروية، يحدث في كل دول العالم•• ضربناهم بحجر في المباراة الأولى فضربونا، شتمناهم فشتمونا، هاجمتنا وسائل إعلامهم فهاجمتها وسائل إعلامنا•• وكان المفترض ألاّ تتعدى المسألة حدود ذلك• ولكن للأسف تطوّرت الأحداث بشكل سريع، وبات من الضروري التعامل مع الوضع بحكمة وصبر ورؤية سياسية حقيقية• فما بين الجزائر ومصر أكبر من مباراة في كرة القدم، وعلى الجميع في كلا البلدين أن يدركوا ذلك• يجب أن نستخدم الرياضة في التجميع بيننا وزيادة الروابط والتنمية لا في الفرقة• كان هتلر يؤمن بنظرية ''مرح القوة''، وهي تعني استغلال الرياضة لدى الشباب الممارس لها في زيادة قوته وحضوره• وانظروا الفرق بيننا وبين أمم أخرى جمعت بينها الرياضة، فالعلاقات بين الصين والولاياتالمتحدةالأمريكية عادت بمباراة في كرة تنس الطاولة، وكذلك العلاقات بين تركيا وأرمينا، وكانوا من ألدّ الأعداء، أعادتها كرة قدم• ولذا أرجوكم لا تعطوا تلك الأحداث أكبر من حجمها وامنحوا الجانبين فرصة لكي تهدأ المسألة بينهما• كيف تقرأ التعامل الرسمي مع تلك الأحداث؟ - عندما يقول وزير الإعلام المصري إن ما حدث في السودان ضد المصريين هو ''إرهاب منظم''، فالقضية هنا تتعدى حدود المباراة لتصبح جزءاً من أمن الدولة، ويجب التحقيق في مقولته تلك، لأن الإرهاب المنظم يعني وجود جهة ما حاولت استغلال المباراة لتحقيق مصالح خاصة بها•• ولكن على كل من الدولتين أن تضعا نصب أعينهما ما يحيط بالأمة كلها، والترفع عن الصغائر• على مدار سنوات عمرك عاصرت مصر العديد من التحولات السياسية، فكيف تراها الآن؟ - عندما حكم ناصر مصر كان عددها 16 مليونا، والآن نحن 80 مليوناً، زدنا في العدد ولكننا ظللنا كما نحن في عاداتنا وفكرنا وأسلوب تواكلنا على الدولة، أضيفي إلى هذا أن مساحة الأرض الزراعية كما هي، لم نتقدم في الصناعة ونقدم سلعاً عاجزة عن المنافسة، وهناك انحطاط في التعليم الذي يتخرّج فيه الآلاف كل عام، بدون مؤهلات تؤهّلهم لاقتحام سوق العمل•• هناك تخلّف في كل المجالات، مصر أصبحت كجسد استفحل فيه المرض، لدرجة أن التفكير في العلاج بات نوعاً من الترف، والبكاء والدعاء لله ليشفيها أيضاً بات نوعاً من الترف•• حالة ميؤوس منها، فمهما أمددنا هذا الجسد المنهك بالمرض بالدواء، فإنه لن يجدي• والسبب ببساطة أننا أمة انتهى عمرها الافتراضي• فقدنا الالتزام والرغبة في العمل وإتقانه فكيف نتقدم إذن؟ وأين يتركّز العيب إذن: في الحاكم أم المحكوم؟ - في كليهما، الحاكم والمحكوم، فالحاكم محاط بحاشية من نفس عيّنة الناس، وبالتالي تؤثر في الحاكم، وأتذكّر نكتة تعبّر عن حالنا، تقول إنه في إحدى الليالي عثر شرطي على رجل يدور حول عمود نور عدة مرات، فسأله عمّا يفعل، فأجابه بأنه يبحث عن مفتاح شقته، فسأله رجل الشرطة: هل وقع منك هنا؟ فأجاب الرجل: لا، بل وقع مني في أول الشارع، فتعجّب الشرطي وسأله: ولماذا تبحث عنه هنا؟ فقال له: لأن هذه المنطقة يتواجد بها النور!• النظام أيضاً لا يبحث عن المفتاح في أول الشارع، ولكنه يبحث عنه في المنطقة التي يتواجد بها النور بجوار الحاشية، وإذا فسدت الحاشية فسد النظام كله، وكلما قوى النظام ضعفت الحاشية، وهناك عبارة شهيرة للمؤرخ البريطاني اللورد أكتور: ''القوة مفسدة، والقوة المطلقة مفسدة مطلقة''• البعض يرى أن أخلاقيات المصريين تنحدر وتتراجع•• ما رأيك؟ - لا أستطيع القول إنها تنحدر أو إنها تراجعت، لأنها كانت دوماً كذلك، عندما نقرأ كتاب ابن إياس نجده يقول فيه: ''إذا دخل الذئب مصر صار حملاً''، أيضاً لاحظ عمرو بن العاص بذكاء أننا نرمي البذور وننتظر الثمار من الرب، وكذلك في كتاب ''وصف مصر'' الذي وضعه علماء الحملة الفرنسية، قالوا إن الفلاح المصري ذو وجه غير معبّر، كالأرض المشققة أمامه، لماذا؟ لأنه يخادع الحاكم، فهو إذا تألّم وأظهر الألم من الضغوط الممارسة عليه زاد عليه الحاكم، وإذا ضحك وأظهر سعادته طالبه الحاكم بالمزيد من الضرائب، فاعتاد أن يكون وجهه بلا أي تعبير• والمصري لم يعتد الثورة على الأحوال الظالمة، إلا في مرة واحدة طيلة تاريخه، حدثت في عهد الملك ''بيبي الثاني'' في الأسرة السادسة، ويصفها الدكتور سليم حسن بأنها أول ثورة بلشيفة في التاريخ، كانت ثورة عمال وفلاحين ضد الحاكم، فثورة عرابي يطلق عليها ''هوجة عرابي''، وثورة 19 ''ثورة الطلبة''، وثورة عبد الناصر ''انقلاب عسكري''، ''15 مايو'' كانت تعديل مسار• نحن شعب عاش بجوار النيل ولم يتزحزح من جواره، ينتظر دوماً الخير أو الشر الذي يأتي به القدر• ولذا كان من الممكن أن نكون أسعد حظاً لو لم يكن النيل من نصيبنا، كنا تعلّمنا الجرأة والسفر والهجرة وعدم الارتباط بالأرض بهذا الشكل، والقدرية التي تمنعنا من اتخاذ القرار والرضا بكل ما يأتي لنا بلا نقاش، ولكن نحن اعتدنا أن كل شيء سهل، أرض منبسطة، حرارة معتدلة، مياه وفيرة• البعض يرى أن علاج الأوضاع في مصر لن يتم إلا بفصل الدين عن الدولة؟ - كيف ذلك؟ نحن مسلمون، ليس بالعقيدة فقط، ولكن بنص الدستور أيضاً، ولكن - وفي ذات الوقت - هناك تطبيق خاطئ للدين ومفهومه في حياتنا، وتقع المسؤولية في هذا الأمر على المؤسسة الدينية التي يصدر بعض أفرادها فتاوى تسيء للإسلام ولنا، كفتوى إرضاع الكبير، والتبرك ببول الرسول، ومسؤول عنه أيضا وسائل الإعلام التي ينتشر في أروقتها أشخاص لا علاقة لهم بالفتاوى ولا الدين• وبالتالي حدثت حالة من الخلط بين الحالة الدينية التي وصلنا لها، وبين الدين• عاصرت خمس مراحل سياسية في تاريخ مصر الحديث، بدءاً من الملك فاروق، وانتهاءً بعهد الرئيس مبارك• كيف ترى تلك العصور؟ - لا يوجد عصر يشبه الآخر، فلكل ملامحه، وقد أعجبني الرئيس مبارك عقب توليه الحكم، وكان في مطار هيثرو بلندن وسأله أحد الصحفيين: ''أنت أقرب لجمال عبد الناصر أم أنور السادات؟'' فأجاب: ''اسمي محمد حسني مبارك''• وكان يعني أنه ذاته، ولكن هذا لا يعني أنه منفصل تاريخياً عن الرئيس السادات، الذي لم يكن منفصلا هو الآخر عن عبد الناصر، الذي لم يكن منفصلاً هو الآخر عن عهد محمد نجيب• وهنا يحضرني مسلسل الملك فاروق الذي عرض منذ نحو عامين وأثار ضجة كبرى، ولكنه لم يعبّر بشكل مهذب عن أسلوب حديث العائلة الملكية التي كانت تتميز بالرقي في الحديث والتعامل• وهذا الرأي نابع من تعاملي مع عدد من أفراد تلك الأسرة، فالملكة فريدة كانت صديقة عزيزة حتى وفاتها، وكذلك الأميرة فريال، كما أنني التقيت الملكة نازلي في الولاياتالمتحدةالأمريكية عام 1959 - بعدما تلقيت برقية من مصطفى أمين - وأنا في طوكيو أثناء إعدادي كتاب ''حول العالم في 200 يوم''• وأجريت معها حواراً ردّت فيه على الكثير مما كتب عنها بالصحف المصرية، وفي نهاية الزيارة طلبت مني عدم نشر الحوار لأنه بلا جدوى• فاحترمت رغبتها حتى يومنا هذا• وعموماً هناك من أضيروا في عهد عبد الناصر، فيرون أن عهد فاروق كان أرحم ولكن لابد من النظر إلى أي مرحلة تاريخية بكل ملابساتها• يرى البعض أنك في كتابك ''عبد الناصر المفترى عليه والمفترى علينا'' لم تكن محايدا فيما ذكرته عنه، ولم تركز إلا على السلبيات فقط؟ - عبد الناصر فصلني من عملي لمدة عام ونصف العام بسبب مقال، وعندما عدت للعمل لم أستطع نقده مرة أخرى كما لم أستطع مهاجمته، لم يكن أحد يستطيع أن يفعل ذلك، وحينما قررت طبع كتابي عنه قررت أن أكون موضوعيا في ذكر أخطائه الكثيرة وهذا يكفيني، ثم ألا يكفي ما كتبه عنه دراويشه الذين لم يذكروا سوى محاسنه، وتناسوا الآثار السلبية التي خلفتها فترة حكمه• لقد ذكروني بالإمام البوصيرى في ختام البُردة حيث يقول: ''محمد خير الورى من عليه الوحي هبط''، فالناصريون حذفوا اسم النبي، ووضعوا محله اسم ناصر• ومما لا شك فيه أن دراويش ناصر جعلوه مبرّأ من الخطأ، وإذا أخطأ فكل أخطائه مبررة، فهزيمه 67 اعتبروها هزيمة عسكرية ونصراً سياسياً، وكل ما حدث في الكون تنبأ به، وقد استنفدوا كل ملامح الخجل، حتى إنهم لم يكتبوا أنه تنبّأ باغتيال السادات ومقتل الأميرة ديانا! رفض الصحفيون في عهد الرئيس عبد الناصر إلغاء الرقابة على الصحف، وكنت منهم، ورغم ذلك تهاجم الصحف المستقلة الآن•• كيف ذلك؟ - الفرق كبير بين الحالتين، فعندما سألنا عبد الناصر في أحد اجتماعاته بنا، عمّا إذا كنا نوافق على إلغاء الرقابة، أجبنا بالنفي، وطلبنا منه الإبقاء على الرقابة• والسبب أنه عندما يكون لدينا رقيب، فهو يعرف الممنوع والمباح، ولكن في حال عدم وجود رقيب وانتهينا من طبع الجريدة سنجد ألف رقيب يمنع صدور الجريدة• على الرغم من أنه في ظل الرقابة عانت أخبار اليوم من العذاب بعينه، وأذكر أن الجريدة كانت تطبع الساعة الخامسة، وجاء الرقيب أثناء الطبع وألغى صفحة كاملة، وهو ما يعني عدم صدور الجريدة لأنه كان ممنوعاً ترك أي فراغ لأن معناه وجود رقابة، فاهتدى علي أمين لفكرة خرجت بها الجريدة، حيث أمرنا أن نكتب فيها سطراً واحداً يقول: ''هذه صفحة لم تحذفها الرقابة، ولكنها غسلت بصابون نابلسي''• وهكذا صدرت الجريدة• أما الصحف المستقلة الموجودة الآن فقد أساء أغلبها استخدام الحرية والآداب العامة، بل إن ما تقوم به قد يدفع الحاكم لتقييد الحريات• الأهم من ذلك أنها تثير في نفوس المصريين حب الإثارة والفضائح دون أن تساهم في تنمية عقل وفكر المواطن• وعوّدت الناس على تقديم الفضائح، بدعوى أن الجريدة التى لا تقدم الفضائح تكون شبيهة بالجرائد القومية• التي باتت هي الأخرى مغيبة في معظم الأحداث• إذا كان هناك دراويش للرئيس عبد الناصر، فهناك الكثير من نقاد الرئيس السادات• كيف ترى تلك الحالة؟ - من انتقدوا السادات لم يذكروا حسنة واحدة فعلها، فنصر أكتوبر هزيمة، والانفتاح الاقتصادى هزيمة، والسلام مع إسرائيل لاسترداد الأرض هزيمة، وفي المؤسسات الرسمية نهاجم السادات، ونغضب من إيران لأنها أذاعت فيلم ''إعدام فرعون''، ونحن من اغتلناه، والكارثة أن الفيلم تنفيذ مصري، وإنتاج عربي• في الوقت الذي يذكر فيه التاريخ للسادات أنه نصر مصر والعرب، ولولا قصور في الرؤية لشاركت الدول العربية في عملية السلام التي قادها السادات وأعاد بها الأرض المصرية• الآن بعد مرور كل تلك السنوات أرى أن الفلسطينيين لن يحصلوا على شبر أرض واحد، ففي الماضي كانت جهة واحدة تفاوض، الآن هناك جبهتان فلسطينيتان، في نفس الوقت الذى توجد فيه حكومة جديدة في إسرائيل، خلفيتها حزب ديني متشدد، يرفض التفاوض على عدد من القضايا الرئيسية فى مقدمتها قضيتا القدس واللاجئين، أضيفي إلى هذا سباق الرئاسة الأمريكية، فمن يعطهم حقهم، وفي رأيي أن القضية الفلسطينية ستتأجل إلى ما لا يقل عن عامين، وفي السنة الثالثة سيبدأ الرئيس الأمريكي في عمل الدعاية الجديدة• فمتى وكيف يحصلون على حقوقهم؟ وهذا في رأيي هو الفرق بين زعيم يمتلك الرؤية وبعد النظر، ورؤساء هم مجرد حكام، وأنور السادات كان يمتلك الرؤية• وماذا عن الرئيس مبارك، كيف ترى فترة حكمه؟ - حسني مبارك حاكم معتدل وغير ظالم• لم يطلب مني أن أغيّر مقالاً أو رأياً، وأذكر أنه طلبني في يوم من الأيام، وقال لي هل يعجبك ما يكتبه حسين مؤنس في مهاجمة ضباط الثورة؟ فقلت له: لا• فسألته: ''هل تحب يا ريس أن أبلغه برأيك؟'' فقال: ''لا، هذا مؤرخ كبير ويعبّر عن رأيه''، أكثر من ذلك، كان هناك هجوم شديد ومباشر على النظام في مقال إحسان عبدالقدوس ''على مقهى في الشارع السياسي'' الذي كان ينشر في أكتوبر، وعلمت أن الرئيس لا يعجبه ما يكتبه، فقلت له: ''يا ريس إحسان سيد المحللين السياسيين، هل تحب أن أنبهه؟ فرفض الرئيس''• كيف ترى المستقبل في مصر؟ - لا أستطيع التنبؤ بالمستقبل، فلست بقارئ كفّ ولا مطّلع على الغيب، ولكنني أشعر أن التقدم بطيء وهذا لا يعطي صورة واضحة للمستقبل الذي يحتاج لتخطيط ورؤية محددة•