في اليونان، كما في أي بلد آخر، إذا قامت إدارة إحدى الشركات بتقديم أرقام مضللة حول وضعها المالي في البيانات الرسمية التي تُقدَّمها للحكومة، بهدف تعزيز سعر أسهمها أو دعم بيع الأوراق المالية، فإنها بذلك تصبح عرضة للمتابعة القضائية بتهم جنائية. هذا الأمر يعتبر في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك اليونان، تزويراً للأوراق المالية. لكن في اليونان، على خلاف البلدان الأخرى، إذا كان المسؤولون عن النصب والاحتيال هم أعضاء في حكومة (سابقة)، وإذا كان ضحايا عملية النصب هم “الأجانب” (أو زينوي xenoi في اللغة اليونانية)، فإنهم غير معرضين لأي تهديد من هذا القبيل. أكثر عقوبة يمكن أن يتوقعونها هي سماع تقريع خفيف مع الرجاء “لا تفعلوها ثانية من فضلكم”. هذا باختصار هو وصف الوضع المالي اليوناني. على الرغم أنه بات من المؤكد الآن أن حكومة “الديمقراطية الجديدة” السابقة تلاعبت بالإحصائيات لتعزيز صورة الاقتصاد اليوناني في أعين المستثمرين، إلا أنه لم توجَّه تهم قضائية ضد رئيس الوزراء السابق كوستاس كارامانليس أو ضد بطانته الاقتصادية. مع ذلك، فإن التشويه المتعمد للأرقام الخاصة بالعجز في المالية العامة في اليونان يشكل بوضوح خداعاً للجهات التي يمكن أن تشتري السندات اليونانية، الأمر الذي أدى بهؤلاء المشترين إلى المطالبة بعلاوة متدنية تماماً للتأمين ضد المخاطر، تقل كثيراً عن العلاوة التي كانوا ستيطلبونها لو أنهم كانوا على علم بالوضع الحقيقي للمالية العامة في اليونان. ورغم أن رئيس الوزراء الحالي كان يمتلك الشجاعة الكافية - بالمقاييس اليونانية - للكشف عن مقدار وحجم عمليات التلاعب المالية للإدارة السابقة، إلا أنه مع ذلك تجنب إصدار أمر بإجراء تحقيق شامل بخصوص عملية الغش المذكورة. إن عدم رغبة النظام القضائي والسياسي في اليونان، أو عدم قدرته، على السعي لمعاقبة القائمين على عملية التضليل المذكورة، خلق فراغاً أخلاقياً تزدهر فيه جميع الأنواع من نظريات المؤامرة. هذه النظريات تشترك جميعاً في أنها تلقي اللوم على الضحايا (أي على حاملي السندات اليونانية) بخصوص المأزق الحالي الذي تعاني منه اليونان. في كل يوم تمتلئ وسائل الإعلام اليونانية بحكايات عن جهات حقيرة تتألف من”المضاربين” و”المنتفعين” و”المصرفيين” و”الممولين” والذين يشبهون المرابي اليهودي شايلوك (أي الذي يريدون أن ينهشوا لحم اليونان)، الذين يلامون على الفوضى الاقتصادية التي تعاني منها اليونان الآن. صدق أو لا تصدق، لكن وفقاً لنظرية المؤامرة المهيمنة في الوقت الحاضر، فإن اليونان عالقة حالياً في صراع هائل لإنقاذ شرف منطقة اليورو، وبالتالي فإن “هجمات المضاربين الأجانب” تشكّل من الناحية العملية هجوماً شرساً ضد اليورو تقوم به “قوى الظلام” (المقصود بذلك هم الأمريكيون) التي لا تريد لأوروبا أن تزدهر وتحتل مكانتها اللائقة على المسرح الدولي. هذا الخطاب يناسب تماماً غالبية الشعب اليوناني، فعلى مدى 30 سنة ظلت جميع الأحزاب السياسية اليونانية تغذي اليونانيين بوجبة لا تنقطع من الخطاب المليء “بمعاداة الإمبريالية”، وهو خطاب تُعتبر بموجبه جميع المشاكل التي تُرزأ بها اليونان هي دائماً من فعل الغرباء (زينوي) ومؤامرات “المنتفعين من اللبراليين الجدد”. لذلك ليس من قبيل المفاجأة أن النظريات التي من هذا القبيل واسعة الانتشار بين الناس؛ بل إنك حين تسمع اليوناني العادي وهو يقول “لن نستطيع أن نلوم إلا أنفسنا” بخصوص الأزمة، فإنه يقصد بذلك في العادة أن اليونانيين أضروا بأنفسهم حين كشفوا “للأجانب” الحجم الحقيقي للعجز في المالية العامة. لو أن الحكومة الحالية لم تكشف هذا الخداع للعالم، فإن اليونان - وفقاً لهذه الحكاية - بإمكانها الاستمرار في استغلال هؤلاء “الفرنجة الأغبياء” لعدة سنوات مقبلة. بعبارة أخرى، المشكلة ليست في حجم العجز بحد ذاته، وإنما في حقيقة أن الحكومة اليونانية الحالية فضّلت أن تكشف النقاب عنه أمام العالم. بعبارة أخرى، مشكلة اليونان ليست اقتصادية فقط، إنما مشكلة أخلاقية كذلك. يقول جورج بيتروس، الأستاذ في جامعة أثينا للاقتصاد والأعمال: “هناك تقليد طال عليه الأمد من التلاعب بالبيانات الإحصائية في اليونان، وليس فقط بسبب التدخلات من جانب الحكومة”. ويضيف: “هذا خلل خطير في النظام تمتد جذوره إلى إخفاق النظام السياسي، وكذلك إلى هيكل وغياب الشفافية في القطاع العام. معنى ذلك أن السرطان ضرب بجذوره عميقاً في هيكل النظام، ومن شأنه تحويل حتى القديسين ليصبحوا على شاكلة راسبوتين”. إن الإخفاق في معاقبة أولئك الذين يتحمّلون المسؤولية السياسية عن هذا الخداع الهائل لن يساعد اليونان على استعادة مصداقيتها بين المستثمرين الدوليين. من جانب آخر، فإن إقامة قضايا قانونية ضد أولئك المسؤولين ربما لا تعمل بالضرورة على تهدئة الأسواق، ولكنها ستبرهن للعالم بالتأكيد أن الخداع أمر لا يمكن السكوت عليه في اليونان، حتى ولو كان الضحايا هم الأجانب “زينوي”.
تاكيس ميكاس/ كاتب يوناني المقال منشور بالتعاون مع مشروع منبر الحرية