على الرغم من تأكيد كل الحريصين على استثمار جهود أبناء الوطن والاستفادة من خبراتهم في مختلف الميادين واستقطاب الخبرات المحلية بما يعود عليها وعلى الوطن بالخير العميم، فإننا نجد أحياناً أن هذه النداءات تصطدم بجُدر افتراضية وهمية صنعتها خبرات غير ناضجة تزرع في نفوس الشباب الإحجام عن كثير من الوظائف والرضا بالبطالة إذا لم تكن الوظيفة الإدارية العالية ذات المركز الاجتماعي الرفيع والدخل العالي. هذا النوع من البطالة القاتلة لا تجدي معها فرص الوظائف المتناثرة هنا وهناك، ولا ينفع معها فتح معارض التوظيف، وتهيئة الكم الكبير من الوظائف بتضافر جهود المسؤولين والمختصين وأصحاب الشأن من القطاعين العام والخاص، إذا كان الشاب يرى في نفسه صورة نمطية “خارقة” تؤمن بقفز درجات الحياة والارتقاء فيها دفعة واحدة. فالخطوة الأولى هي الخطوة الأخيرة في سلم المجد والمكانة، و”البرستيج” الوظيفي، قبل المتطلبات الوظيفية وواجبات العمل والصبر والمكابدة اليومية.
وإذا كنا نستحث خطا القائمين على أمر توظيف الكفاءات المواطنة ونبارك جهودهم ونطالب بمضاعفتها بغية استقطاب شبابنا ليملؤوا فراغ الكثير من الوظائف التي لا يجدر بها إلا ابن البلد، إلا أننا في الوقت ذاته ندق ناقوس الخطر أمام جيل لا يدرك حجم المشكلة التي يسوق نفسه لها، إذا هو رضي بأحلام المستقبل من دون مكابدة الواقع واقتناص النجاح قطرة قطرة. فأي ثقافة جيل تلك التي تسري في نفوس البعض فتجعل منهم عالة على أسرهم والمجتمع بانتظار الوظيفة الرفيعة المناسبة، وأي حجم من خسائر الطاقات نضع أنفسنا أمامه حين تستشري هذه الثقافة فتكون نمط تفكير ومنهج حياة. وأي خير نرجوه في شباب يألفون الركون إلى الدعة والراحة ويتحسرون على ضياع الفرص وذهابها إلى فلان وفلان وهم متكئون على الأرائك لا يعجبهم العجب..؟! نحن الخاسرون أولا وأخيرا إذا رضينا باستشراء هذه الثقافة في أوساط أبنائنا، ونحن المسؤولون كأولياء أمور وأرباب أسر ومربين ومعلمين عن استئصال ثقافة العيب من بعض الوظائف المتواضعة وترسيخ مبادئ حب العمل والعطاء مهما كانت الدرجة الوظيفية التي تسكن عليها، فهي بالنهاية من البطالة أفضل، وهي من محاكاة نجوم الأماني أرقى وأجمل. وإذا كان الإعلام يتحمل جزءا كبيرا من تكريس مثل هذه الصورة المشوهة لدى الشباب فهذا نصف أحد حجري الرحى الذي يطحن طاقات الجيل الناشئ، والحجر الآخر يقبع في بعض الأسر التي تزرع في نفوس أبنائها الأنفة عن الوظائف العادية، ولا ترعى غرسة الطموح لتنضج وتؤتي ثمارها. وعلى الجانب الآخر، هل فكرنا من زاوية الشباب أنفسهم لنعرف أسباب إحجامهم عن الكثير من الوظائف؟ وهل بحث المختصون عن أسباب هذه الظاهرة، إذا سلمنا أنها وصلت حد الظاهرة أو تكاد تصل إلى ذلك؟ وهل تواصل الآباء مع أبنائهم واقتربوا من مشكلاتهم بشفافية لرصد أبعاد هذه الأفكار عندهم، ومدى تأثير الوسط الشبابي في صنع قراراتهم المصيرية في العمل والحياة؟ والاقتراب أكثر من تفكير الشباب يظهر أن بعضهم قد يكون ضحية لجرح اجتماعي أو اقتصادي لم يعالج بنجاح أورث هذه النظرة إلى الوظيفة، وآخرون ربما يتقدمون إلى الوظائف بدافع الرفاهية وهم يجدون بين أيديهم بسطة العيش وقلة الدوافع الضامنة للصبر على طريق الوظيفة الشاق. وآخرون يرون أنفسهم أصبحوا بالغين وقادرين على صناعة قراراتهم بأنفسهم من دون إضاعة الوقت باستشارة أحد، أو انتظار وصاية أحد، وهم بالتالي أولى بمستقبلهم، وإذا كنا نوافقهم في هذه الجزئية، إلا أننا لا نوافقهم علة السلوك المترتب عليها، والذي يقصيهم عن الاستئناس بآراء أصحاب التجارب من الوالدين أو غيرهما. شيء آخر لابد من الحديث عنه، على الرغم من حساسيته عند البعض، وهو يتعلق بتضخيم هالة العادات والتقاليد والعيب التي تحكم تصرفاتنا وسيطرة فكرة أن هذا المنصب لا يليق، وهذه الوظيفة لا تناسب، وهذا التخصص يتعارض من مكانة الأسرة، وغيرها من أوهام المكانة الاجتماعية التي يكون الحفاظ عليها بعرق العمل لا بأسباب الدعة والبطالة والعزوف عن الوظيفة. هذه الأمور تجعل قراءتنا للمشكلة التي يعانيها الشباب أكثر وضوحا، وتكفل إيجاد الدراسات واستخلاص النتائج التي تعيد فيهم بناء ثقافة حب العمل لخدمة النفس والوطن، وتزرع في نفوسهم جذور الصبر على مشوار النجاح حتى بلوغ المراد. بقلم : نورة السويدي مديرة تحرير مجلة “بنت الخليج”