تقاس درجة تحضر الأمم ومستوى تقدمها ورقيها وهيبتها بما تملكه من عناصر القوة العلمية والمعرفية والتكنولوجية (من خلال حركية التأليف والترجمة والنشر والتوزيع وفتح المكتبات والتشجيع على القراءة وحركة التصنيع...) مع تنوعها الثقافي إلى جانب قوتها الاقتصادية من خلال ما تنتجه من سلع واستقلاليتها في ذلك مع تدعيم عناصر تماسكها الاجتماعي هذا من جهة. ومن جهة أخرى تقاس بمدى محاربتها لكل أشكال الأمية والجهل في أبنائها من خلال تربيتهم و تعليمهم ورفع مستوى تفكيرهم واهتماماته بالقضايا الكبرى وعزائم الأمور مع الحرص على تحصينهم علميا وثقافيا ورفع هممهم من خلال تشجيعهم على القراءة والتعلم والإبداع ورفع روح التحدي. فهل تتوفر هذه العناصر في مجتمعنا الجزائري؟ فالجواب يكون بالنفي (لا لا لا..).لأننا عندما نحلل واقعنا بموضوعية بعيدا عن الخطاب الديماغوجي الذي يدغدغ عواطفنا ويلهينا عن حقيقتنا من خلال التصريحات التي يطلقها السياسيين دائما حول الانجازات المحققة مركزين على الجانب الكمي والعددي مثل كمية الأموال المنفقة والبناءات والهياكل القاعدية المجسدة والتجهيزات الموفرة عدد الأفراد المتمدرسين والمتكونين والمتخرجين، فإننا سنكتشف أن مجتمعنا في خطر فعلي مادام نوعية ومستوى الأفراد المتعلمين والمتكونين ضعيف والثقافة المتداولة بينهم استهلاكية بكل الأبعاد والمقاييس. وإلا كيف نفسر ضعف إقبال المتعلمين في مختلف مستوياتهم على القراءة واقتناء الكتب والمجلات و حضور اللقاءات العلمية والفكرية والتظاهرات الثقافية التي تنظم هنا وهناك في مختلف المستويات والمؤسسات كمعارض الكتاب على سبيل المثال؟ وكيف نفسر الضجات الإعلامية والنقاشات المعمقة التي تحدثها إصدارات الكتب الجديدة في مختف العلوم والمعارف في الدول المتقدمة والنامية والمعبرة على مسايرة الإنتاج العلمي والثقافي هناك، ولا يحدث مثلها عندنا بل بالعكس تحدث ضجات إعلامية حول مباريات في كرة القدم وتصريحات المسؤولين والرياضيين ورواتبهم وخلافاتهم حول ذلك والتي تزيد المجتمع فتنا وأحقادا وضغائنا؟ ومكمن الخطر في كل هذا أن مشكلة المقروئية في مجتمعنا في تنامي ابتداء من المؤسسات التربوية (من الابتدائية إلى الثانوية) حيث نجد تلامذتنا لا يهمهم من الدراسة والعلوم إلا النقطة عن طريق الحفظ الببغائي للخلاصات والدروس والتمارين التي يوظفوها في الامتحانات. و حتى طريقة العمل بالمشروع المعتمدة في طرائق التدريس لمختلف المواد الدراسية في مختلف المراحل أصبح يتحايل عليها التلاميذ بتواطؤ من معلميهم وأوليائهم من خلال لجوئهم إلى نوادي الأنترنيت لاستنساخها و طبعها وتسليمها جاهزة للمعلمين دون قراءة ولا تعليق ولا تلخيص على الأقل(لاحظوا إعلانات على أبواب نوادي الأنترنيت دروس جاهزة للتلاميذ). فقلما نجد من يشجع أو يرغب لا رسميا ولا على مستوى الأسرة على المطالعة والقراءة واستعمال الكتب والمكتبات. حتى المعلمين والمفتشين والإداريين قلما نجد من يطالع و يقرأ الجديد من الكتب والمجلات. لتجديد المعارف وتحسين المستوى دوريا. على مستوى الجامعات نجد طلبتنا كذلك لا يقرأون إلا بالقدر الذي يقدم لهم في المدرجات من محاضرات ومطبوعات للامتحان فيها وحتى هذه الأخيرة (المحاضرات) لا يحضرها إلا القليل جدا. و على مستوى مكتبات الجامعات لا نجد إلا العدد القليل من الطلبة الذين يصارعون الوقت لإنجاز وتقديم بعض الأعمال التي كلفوا بها مقارنة بما نجده على مستوى ساحات الجامعة وأزقتها وأروقتها من تجمعات ثنائية وثلاثية ورباعية. حتى عند التكليف بإنجاز بحوث وبطاقات مطالعة يتحايلون باللجوء إلى مواقع الأنترنيت للنسخ والطبع والتسليم(copy coller print) بشكل جاهز دون قراءة و لا مطالعة لمحتواها. حتى مذكرات التخرج في كل المستويات لم تسلم من ذلك إذ تنجز وفق هذه الآلية السهلة عن طريق الاقتباس الحرفي الكلي و الجزئي دون غربلة ولا نسج للأفكار. والغريب في الأمر أن الظاهرة امتدت حتى إلى بعض الأساتذة الذين قلما نجد من يقرأ أو يميل إلى المطالعة حتى أننا سمعنا من البعض من يطمح إلى الوصول إلى رتبة أستاذ التعليم العالي ليستريح بعدها ويركن للتقاعد. أما عامة الناس فيقاسمون خاصتهم من المتعلمون في مختلف المراحل في الكثير من الأمور لا سيما عدم وجود لذة المطالعة و لا الاهتمام بآخر الإصدارات العلمية والمعرفية بقدر ما يهتمون بآخر الصيحات الالكترونية (من هواتف نقالة تلفزيونات وأجهزة استقبال وسيارات......) إلى جانب الموضات من الألبسة و العطور وأدوات الزينة وغيرها. ومن الدلائل على ما نقول ما سجلناه خلال حضورنا للكثير من المعارض الدولية والوطنية حول الكتاب وآخرها ما نظم بولاية سطيف في الفترة الممتدة بين 8 و 18 ماي 2010 أين سجلنا وسجل المنظمون غيابا شبه كلي للشرائح السابقة الذكر خاصة مع العلم أن موقع المعرض لا يبعد الجامعة بقطبيها القديم والجديد إلا بعض الأمتار فقط و في نفس الوقت تحتل ولاية سطيف المرتبة الثانية وطنيا من حيث نسبة السكان بعد الجزائر العاصمة وتملك من المرافق الكثيرة التي تؤهلها لتكون من الولايات الرائدة في المجال العلمي والثقافي .وعرف عنها الكثير من الانجازات في مختلف الميادين. ألا يوجد في كل هذا خللا عميقا في الجينات الفكرية أو في المناظيم الفكري logicielles de pensée لمسؤولينا وأفراد مجتمعنا من حيث ترتيب الأولويات والأهمية الاستراتيجية لقضايا المجتمع. و إلا كيف نفسر غياب التشجيع والتحفيز والتدعيم لمثل هذه النشاطات العلمية والثقافية و الإبداعية في الوقت الذي نجد التشجيع والدعم المادي والمعنوي لكل الأنشطة التجارية والحفلات الغنائية والتظاهرات الرياضية ؟ أليس ذلك تدعيما للثقافة المادية والاستهلاكية على حساب القضايا الإستراتيجية في التنمية الشاملة و المستدامة ؟(الاستثمار في الإنسان الذي يعتبر العنصر الفاعل والفعال في معادلة الحضارة الذي ذكرها الأستاذ مالك بن نبي). ولماذا لا يحضر المسؤولون الرسميون في مختلف المستويات والإدارات التظاهرات العلمية والثقافية إلا في حدود بروتوكول الافتتاح الرسمي وعند حضور بعض الوزراء أو السياسيين وفي المقابل نجد الجميع يتنافس على حضور المقابلات الرياضية في كرة القدم والحفلات الغنائية والتظاهرات الاقتصادية وغيرها ؟ أليس ذلك تعبيرا عن هامشية ولا أهمية مثل هذه النشاطات البنائية للإنسان في نظر المواطنين والتلاميذ والطلبة؟ أليس ذلك تشجيعا ضمنيا للاستهجان والنفور من كل ما هو علمي وثقافي ومعرفي؟ وكيف نفسر تسخير كل شئ وبحماسة كبيرة لإنجاح مختلف التظاهرات الاستهلاكية والحفلاتية (الزردات إن صح التعبير) إعلاميا ماديا ومعنويا ويجند لها كل المسؤولين يتنافس عليها كل الناس، مسؤولين كانوا في مختلف الرتب والمستويات ومواطنين عاديين ولا يولى نفس الاهتمام والدعم والحماسة للنشر والتأليف والترجمة و تدعيم الكتاب والمقروئية ومختلف لتظاهرات العلمية والثقافية الإبداعية التي تزرع الوعي وتحصن الأجيال من كل الاختلالات الفكرية والهزات النفسية ومن القابلية للتبعية والاستعمار ومن كل الآفات (إجرام وإرهاب ومخدرات وامراض نفسية). من المتسبب في هذا الوضع المتردي الذي أصبح فيه " الواد يحمل من ذيلو" وأصبح فيه من يفكر برجليه أغلى وأحسن من الذي يفكر بعقله حتى انقلب سلم القيم رأسا على عقب؟ نستخلص ان الجزء الكبير من المسؤولية يتحمله المسؤولين السياسيين والإداريين في مختلف الوزارات والإدارات وهياكل الدولة الجزائرية الذين عززوا هذا المنطق المقلوب السائد، وكذا لضعف فعالية السياسة الوطنية المعتمدة في تدعيم العلم والمعرفة والتأليف و النشر في كل المستويات. ويتحمل الجزء الآخر من المسؤولية الصحافة الوطنية المكتوبة والمسموعة والمرئية الخاصة والعمومية التي ساهمت في تخدير الشباب الجزائري بمعلومات و أخبار في عدة صفحات و حصص سمعية وبصرية حول نتائج مباريات كرة القدم وتصريحات مسؤولي الفرق الرياضية واللاعبين وحياتهم الخاصة وتعزيز الجدل والصراعات بينها من خلال نقل أخبار وتفصيل تارة صحيحة وتارة أخرى كاذبة للايقاع بهاذ أو ذاك مع ابتزاز المواطنين بعناوين جذابة للمتاجرة بأخبار الفرق واللاعبين ومشكلاتهم والتي لا تثمن ولا تغني الشباب في شيء بل كثيرا ما تحدث الفتن وأعمال العنف والشغب بين المناصرين من الشباب الجزائري الطموح لتشغيله بعزائم الأمور التي تضمن له الوجود في المستقبل بين الأمم. حتى أصبح هذا الأخير (الشباب) في مختلف المراحل الدراسية(من الابتدائي إلى الجامعي) يتعمد الغياب عن الدراسة ويرفض المراجعة لدروسه رغم إلحاح الأولياء بل ينفر من الدراسة كلية ويعتبرها مضيعة للوقت بسبب مباريات كرة القدم وحديثه اليومي عن أخبار اللاعبين وحياتهم ومدخولهم الشهري حتى أصبح يخيل لأجيالنا من خلال معلوماتهم عن المستوى الدراسي البسيط ومهن اللاعبين وطبقاتهم الاجتماعية أن العلم والمعرفة والدراسة والبحث العلمي وغيره ليست مخرجا في الحياة ولا توصل إلى بر الأمان والنجاح.بما أن لاعب ذي مستوى ابتدائي أو دون مستوى مدخوله الشهري يساوي عشرة أضعاف ما يتقاضاه الأستاذ الجامعي برتبة أستاذ التعليم العالي. إذن أصبح الأمر خطير للغاية إن استمر الوضع على ما هو عليه.حيث ستصبح الأجيال الناشئة بمثل هذه الثقافة الاستهلاكية (ثقافة بمثابة الشوينغوم أو العلك يفقد قيمته بعد ذوبان السكر فيه ليرمى على الأرض) بليدة، نظرتها ستكوم سطحية للحياة والكون والقضايا المصيرية والهامة مثلما ذكرنا بعض مؤشراته سابقا. فضرورة تشجيع التأليف والطبع ودور النشر على التوزيع وتدعيم والكتاب والمقروئية من خلال خلق فضاءات للقراءة و للنقاش والمنافسة الفكرية والعلمية بين المربين والمعلمين والأساتذة على مستوى المدارس و الجامعات و بين المتعلمين والطلبة حتى في البيوت من قبل الأولياء إلى جانب دور الصحافة ووسائل الإعلام المختلفة في التحسيس والتوعية والتوجيه في هذا الاتجاه واجبا وطنيا تمليه علينا التحديات العالمية المعاصرة. فلا يجب أن نغرر شبابنا وأجيالنا بانتصارات وقضايا وهمية في الوقت الذي نجد دول العالم المتقدم تصنع انتصارات حقيقية لمجتمعاتها تفرض من خلالها وجودها و تتنافس على إنتاج المعارف والعلوم والتحكم في المعلومات والمعارف في مختلف المجالات كالتحكم في العلوم النووية والعلوم التكنولوجية والعسكرية والإنتاج الاقتصادي والهيمنة المالية والمؤسساتية والخبرات التقنية المتطورة لتكون لها الكلمة العليا والهيبة بين الأمم.و يحضرني هنا التقرير الذي أنجزه خبراء أمركيون في الأربعينيات من القرن الماضي تحت عنوان "أمريكا في خطر" يشخصون فيه بجرأة وصراحة ضعف نظامهم التربوي على منافسة النظام التربوي السوفياتي التي سبقها في إعداد كفاءات تمكنت من إطلاق أول مركبة فضائية "سبوتنيك" قبل الولاياتالمتحدةالأمريكية. فهكذا تتنافس الأمم على التحكم في الكرة الأرضية و نتنافس نحن على اللعب والتحكم في الكرة الجلدية .