الإهداء: إلى أحد شهود ومعتقل بول ڤزال PAUL GAZELLE الكولونيالي في الزمن الصعب، ثوريا عاش ومغمورا قانعا يعيش الآن.. لا أحد يتذكّره! إلى السائق رڤاص رابح... من داخل العنبر رقم 13.. تتجلى الصورة.. مساحة في أقصى حدود الضيق.. أرضيتها ترابية في الغالب تتزاوج مع بعض بقايا الحجر الصلب المتصدع.. غرفة تكاد تكون معتمة هي هذا العنبر.. على ارتفاع من إحدى زواياها كوة صغيرة أرادوا لها أن تكون نافذة موصدة بشباك غليظ من الخارج.. ثلاثة رجال في هذا العنبر.. وأفرشة متهالكة عتيقة وصحن حديدي فارغ وإناء وخيوط دخان تتسلل إلى خارجها. يخاطب الرجل المتلقي على ظهره على جانب الجدار رفيقيه بدون أن يلتفت إلى موضعهما: "هم على يقين ويدركون قطعا أنّنا لن نخرج من هذا الجحيم أحياء! إذن؛ لماذا لا نفكّر في الفرار أفضل من البقاء رهائن لوحوش لا مهنة لديهم غير التعذيب ثم الموت! أوغاد، وحوش!!" مرت لحظات معتبرة، وانتفض أحدهما من على حافة السرير المقابل من جلسته ليجيبه: "إنها مخاطرة يا سي الشريف.. ألا تدري أننا في قلب مربع الموت.. "صحراء بول ڤزال" المترامية الأطراف تحيط بنا، وأقرب خيمة للأهالي على بعد أميال والأسلاك الشائكة والكلاب.. ثم كيف سنهرب؟ غير ممكن في الوقت الحالي..". غير أن الرجل الآخر القريب منه قاطعه بهدوء وأعقب على حديثه بحماس ظاهر: "يمكن ذلك، سنموت تحت التعذيب إذا ما بقينا في وضع اللاّتفكير... بقع سوداء غير متباعدة في ظهره وعلى الصدر خطوط تبدو عميقة محفوفة، أسفل البطن كمدات من نقاط الدم المتجمد.. ثم أردف الرجل المتحمس: "هل رأيتم؟ لم يتركوا منطقة في الصدر إلا وأحرقوها بالحديد والنار.. منذ يومين قفط سمعنا كلنا عن سجناء العنابر صيحات مدت (أربعة خاوة) تباعا، اللّه أكبر، تحيا الجزائر، أنطفأوا مثل أعواد الكبير تحت التعذيب، مثلهم سيأتي دورنا،"سي الشريف" خطّط للهروب، الثورة في حاجة إلينا ولا نخاف الموت، ولكن لا نريده تحت نعالهم القذرة!". من لحظة أن فاجأهم بالفكرة، مكث "سي الشريف" صامتا.. لم يهتز الجسد.. ظل رأسه مسنودا للجدار.. يحدق بعينين لامعتين في سقف الغرفة المعتمة الباردة، وظن من كان معه أنه شارد الذهن.. لم يستهلكه الصمت طويلا، زفر بعمق وكعادته تحدث بصوت رزين غطّته نبرة تحدي: "سأخطط.. في ذهني تدور خطة مذهلة للفرار! لا نستهين بالورق، سيكشفوننا، الخطة ستبقى في رؤوسنا.. في الغد سأفصح لكما عنها..". وكأنّا لحظة انعتاق كبرى تعبر زمن متاهة العنبر، سيل دافق ينزل على أرض أنهكها العطش.. سارع الرجلان إلى ناحية رفيقهما "سي الشريف" هو الآخر تأهّب للوقوف لاحتضانهما لما شعر بذلك غير أنه تثقال، لم يستطع من ضراوة الآلام في ظهره.. اقتربنا منه أكثر، تلاقت الأيدي متشابكة في عناق ومصافحات طافحة. من بعيد.. كانت تبدو "الجهة الشمالية" والمعزولة خلف الهضبة السهبية، قرية عامرة بأهلها.. فعلا حي تبدو هكذا.. حركة دائمة وضجيج تحدثه الشاحنات العسكرية، فقط غدو ورواح وزعيق يصدر من الجنود يطغى على المكان.. تفتح (القرية المعتقل) مداخلها لضيوف جدد جيء بهم من أمكنة شتى.. رجال ينزلون مقيدين من مؤخرة الشاحنات يتلقون الضرب مع صراخ اللعنات.. على امتداد المساحة الصحراوية الشاسعة يتراءى لك طابورا طويلا من هؤلاء، سرعان ما يتوقف عن السير كما تصدر عن العساكر حركات بأيديهم ثم الأصوات الصارخة تطبق الأفق "قفوا" يتوقف الطابور أمام خيمة بيضاء كبيرة منصوبة في طرف صحي من الساحة، يتبيّن منها أنها مكتب حاكم إدارة المعتقل.. بعد حين يتراءى لك مشهد الخروج الجماعي لهؤلاء من باب الخيمة المكشوف وهم يحملون ألبستهم الجديدة على ظهرها تبثت أرقاما تشير إلى جغرافيا العنابر التي سوف يستوطنونها! أمر العساكر الذين كانوا يحرصون البوابة الخارجية للمعتقل السائق أن يتقدم، اقترب سائق الشاحنة ناحيتهم وأبطأ وتيرة الحركة على الأرض الصحراوية المغطاة بالحشائش والحلفاء نهبا، أمام مكتب المعتقل توقفت.. نزل السائق، تحدث معه ثلة من الجنود.. ثم انصرف إلى جهة أحد المستودعات، فتحوا له الباب، المستودع الكبير ضاقت مساحته بالنفايات.. تركوه وحده، تسمّر قبالته ثم شرع يحمل البعض منها إلى غاية مكان تواجد الشاحنة ويلقي بها خلفها.. وفي الآن نفسه كان يلتفت دون أن يثير انتباه أحد، يختطف نظرات سريعة لعشرات المعتقلين الذين توزعوا في الساحة لاسترداد أنفاس منحت لهم للاستراحة.. وسط هؤلاء دنا "سي الشريف" من حدهم ربت على كتفه وهمس له في أذنه بصوت خافت: "لقد دقت ساعة الحقيقة الآن.. لحظة أن تسمعوا الصرخة انطلقوا بحذر حسب الخطة المرسومة، لا أريد تخاذل.." وهو يتسلل من مشروع النفايات، أطلق السائق صرخته وهو يتلوى والصراخي يعلو: "النجدة، إنه ثعبان ضخم.. وتسارعت الأحذية العسكرية إلى ناحيته.. طوقت المستودع من كل جانب، جلبة وضجيج صاخب، تزامن مع هول الصرخة اقتحام رجال ثلاثة مؤخرة الشاحنة واختفوا داخل أكوام النغايات.. لا أحد تفطن لذلك، كانت الحركة الحذرة أسرع من يقظة العساكر وحراستهم المشددة، لم يعثروا على أي شيء، الرجل كان يصرخ بهستيريا مموهة بارعة، أطلقوا الرصاص، لا أثر للثعبان الصحراوي، كان يجزم لهم أنه رآه يتلوى على ورق الكرتون أمام عينيه. تعالت ضحكات الجنود وقهقهاتهم على جبن السائق، انصرفوا، وعاد هو إلى حمل البقايا إلى الشاحنة وكأن شيئا لم يطرأ. فرغ من عمله ثم تحدث مع الجنود، وصعد إلى مقعده، وانطلق، كان يدرك يقينا لا يشوبه شك أن الرجال من الآن في نفس الشاحنة وفي الخلف، انفرجت أسارير الوجه عن فرحة لا حدود لها، اقترب من البوابة الخارجية، مثل المعتاد تأمله الحراس.. أومأوا له بالذهاب وراحت العربة الثقيلة تشق الأرض الصحراوية ومن حين إلى آخر يصوب نظره إلى المرآة الخارجية العاكسة.. لقد ترك الرجل معتقل الصحراء خلفه، يحدث نفسه المنتعشة زهوا، هل يتوقف الآن؟ يمتنع.. يدنو من "الفيلاج" يأخذ بعض المسالك الترابية وفجأة يتوقف، صمت المحرك وهدأ الضجيج، أقفل الباب بهدوء وهبط، التفت يمينا وشمالا.. مشى إلى آخر الشاحنة.. ضرب بيده على الحديد.. خرج الثلاثة من الخلف، نزلوا واحتضنوا بعضهم.. واختفوا مع السائق.. سوى الشاحنة ظلت رابضة في ذات المكان. في اليوم الموالي، اطلع الأهالي بالمنطقة على خبر مثير منشور في صدر الصفحة الأولى من الجريدة الفرنسية (مصالح الأمن تقضي على أربعة خارجين عن القانون فروا من السجن!) وتحت الخبر صورة وهمية لقتلى! ذات صباح ديسمبري دافئ وبعد ثلاثين سنة.. نزل شيخان من سيارة كان يقودها رجل في مقتبل العمر.. أطالا التشخيص في ملامح ذلك العجوز الجالس تحت جدار بيته القديم يلتقط أشعة الشمس، صاح فيه أحدهما بفرح أسطوري عارم: - "إلا الجبال ما يتلقاوش.. يا سي رقاص..!؟" بهت العجوز، زلزله وقع الصوت الهادئ، وقف على رجليه بصعوبة قصوى وصاح: - "سي الشريف".. تلاحمت الأيدي، تلاقت الأحضان في عناق.. نزلت دمعتان من عيني الرجل العجوز غسلتا بعضا من حفريات الوجه المنمي". محمد مصطفاوي عين وسارة بول ڤزال" PAUL GAZELLE: الاسم القديم لمدينة عين وسارة وأيضا اسم المعتقل الصحراوي الشهير.