بعد الإعتداء الشنيع الذي أقدمت عليه إسرائيل الأسبوع الماضي في المياه الدولية ضد قافلة الحرية المتجهة إلى قطاع غزة بهدف كسر الحصار المفروض عليه، أصبح الكثيرون يتساءلون: ماذا عسى على إسرائيل أن لا تفعله؟! الإجابة بالطبع غدت جلية، حيث أصبحت إسرائيل ذاتها واضحة كل الوضوح في رسالتها التي توجهها للعالم، والتي مفادها أنها تستطيع فعل ما تشاء ضد من تشاء وكيفما تشاء ولا أحد بإمكانه أن يوقفها، وإن كان ما تفعله هو خروج واضح وصارخ عن القانون الدولي وانتهاك للمبادئ الإنسانية والأعراف الدولية.. فهي بحق دولة خارجة عن القانون، أي أنها بلا منازع الدولة المارقة الأولى في العالم. لقد كتب الكاتب الأمريكي ويليم بلوم في عام 2006 كتابه الشهير ”الدولة المارقة: المرشد للقوى العظمى الوحيدة في العالم” مشيراً إلى الولاياتالمتحدة الأميركية باعتبارها الدولة الخارجة عن القانون الدولي بسبب سياساتها التي تقوم بها حول العالم. ولكن الواضح هو أن إسرائيل هي الدولة المارقة بحق؛ فما تفعله الولاياتالمتحدة تجد إدارتها له تفسير أو غطاء قانوني في معظم الأحيان، وربما الاستثناء هنا اجتياحها العسكري للعراق. ولكن ما تقوم به إسرائيل هو خرق واضح للقانون الدولي ولا يمكن لها أن تجد لنفسها غطاء قانونيا فيما تقوم به في فلسطينالمحتلة ضد الشعب الفلسطيني وهويته وأرضه، وضد سيادة الدول العربية المجاورة لها وحتى البعيدة عنها، وضد المدنيين من الناشطين الدوليين. والحقيقة التي يجب الإشارة إليها هنا هي أن المشكلة في كل ما تفعله إسرائيل لا يقع عليها وحدها، حيث إن إسرائيل دولة تتبع النهج الواقعي السياسي في علاقاتها الدولية، والمعروف أن النظرة الواقعية السياسية للدول تضع المصلحة الضيقة للدولة فوق كل شي، وأن تطلب تحقيق تلك المصلحة العمل بمبدأ ”الغاية تبرر الوسيلة” فإن ذلك مسموح به وفقاً لهذه النظرة. إسرائيل دولة لديها أجندتها ومصالحها واتخذت لنفسها النظرة الواقعية السياسية، وبنت إستراتيجيتها في تحقيق مصلحتها على أساس هذه النظرة؛ فيمكن انتقادها على ما تفعله ولكن لا يمكن أن تعاب على ما تقوم به لطالما أن ذلك هو جزء أصيل من سياستها الإستراتيجية لتحقيق مصالحها. وذلك فإن المشكلة لا تقع في إسرائيل، قدر ما هي موجودة لدى الآخرين الذين عجزوا في وضع سياسات استراتيجية قادرة على مواجهة السياسة الإستراتيجية الإسرائيلية. والحديث هنا بالطبع عن العرب الذين لم يتمكنوا، إلى يومنا هذا، من بلورة سياسة استراتيجية عربية موحدة للتعامل مع إسرائيل تضع النقاط على الحروف وتفرض على إسرائيل خيار التفاوض الجدي، من خلال وضع بدائل وخيارات للعرب في التعامل مع إسرائيل حول ملف فلسطين، وتستطيع من خلالها الدول العربية أن تضع برنامجاً يمكن أن يحقق لها التوازن في القوة التفاوضية مع إسرائيل حول هذا الملف. هذه الحالة العربية، المتمثلة في غياب الإستراتيجية العربية الموحدة تجاه القضية الفلسطينية، ألقت بظلالها على الداخل الفلسطيني الذي بدوره انقسم على نفسه إلى قسمين، كل واحد منهما يحمل سياسته الإستراتيجية الخاصة به في التعامل مع إسرائيل، من دون وجود قبول مشترك لكل طرف بسياسة الطرف الآخر. وفي ظل غياب مثل هذه الإستراتيجية العربية الموحدة، وفي ظل غياب الإستراتيجية الفلسطينية الموحدة، حدث العجز في إمكانية تحقيق التوازن في القوة التفاوضية مع إسرائيل لصالح الأخيرة التي استثمرت كل هذه الأوضاع لصالحها وأصبحت تعيث في الأرض فساداً. كما أن هذا الأمر فتح الباب على مصراعيه لجهات إقليمية أخرى غير عربية - كإيران وتركيا - بأن تستغل تلك الظروف لصالحها وتحقق مكاسب لها في المنطقة العربية، تفوق المكاسب التي تحققها جميع الدول العربية في نطاقها الإقليمي. وأدى هذا الوضع أيضاً إلى تراجع الدعم الدولي، لاسيما الأمريكي عن الإستثمار في بلورة صيغة سلام مشتركة، بحجة أن الفلسطينيين أنفسهم لا يتحدثون بلغة سياسية واحدة. فالتعنت الإسرائيلي وسياساتها العدوانية الهمجية، والتوغل الإقليمي الغير عربي في المسألة الفلسطينية، والعجز الأمريكي ومعه الدولي عن تحقيق اختراق في مسألة الصراع العربي -الإسرائيلي مرده الأساسي حالة الضعف والإنقسام العربي أكثر من أي شي آخر. الدول العربية ومعها الفرقاء في فلسطين دائما ما يتحدثون عن استثمار أحداث بعينها من أجل تحقيق المصالحة العربية بشكل عام وتحقيق المصالحة الوطنية في فلسطين بشكل خاص؛ ولكن تبقى هذه الأحاديث مجرد شعارات تُرفع. حيث لا يبدو أن أحداً مستعد للتنازل عن ما يعتبرها ثوابت بالنسبة له كي يبدأ المصالحة مع الطرف الآخر، وهذه الثوابت، للأسف الشديد، لا تنم إلا عن مصالح شخصية أو ضيقة أكثر من أنها مصالح وطنية. فعرب ما يسمى بالإعتدال.. غير مستعدين لقبول التعامل مع حماس التي في رأيهم شقت الصف الفلسطيني وسمحت بالتوغل الإيراني ورفعت راية الدين السياسي في المنطقة العربية، فيما عرب التشدد غير مستعدين لقبول التعامل مع السلطة الفلسطينية وإستراتيجيتها البعيدة عن خيار المقاومة المسلحة. والسلطة الفلسطينية غير مستعدة للتعامل مع حماس بشروطها التي تريد فصل القطاع عن الضفة، وحماس لا تريد من جهتها التعامل مع السلطة الرافضة لفكر حماس السياسي في تحقيق هدف الدولة الفلسطينية. وبين حالة الإنقسام هذه تضيع حقوق الشعب الفلسطيني على يد محتل غاشم لا يعلم في السياسية إلا مبدأ استغلال الفرص واستثمارها لصالح تحقيق مصلحته الوطنية، ولو كانت تلك المصلحة على حساب حقوق الشعب الفلسطيني وحساب القوانين والمبادئ الدولية. فالمشكلة ليست في إسرائيل التي تسعى لتحقيق مصالحها الوطنية، وإنما تتمثل فينا نحن العرب الذين أصبحنا في حاجة ماسة اليوم، وقبل أي وقت آخر، إلى وضع المصلحة المشتركة أمام أعيننا كأولوية من أجل صياغة سياسة استراتيجية للتعامل مع إسرائيل في سبيل تحقيق هدف إقامة الدولة الفلسطينية، وحتى ذلك الوقت سنبقى مهزوزين أمام إسرائيل التي لن تتوقف عن استغلال الوضع لتحقيق مكاسب أكبر لصالحها. بقلم: د. محمد بن هويدن