أبدى الشاعر الجزائري المغترب، عمّار مرياش، قلقا مشروعا حول النشاط الثقافي الجزائري في المهجر، خاصة وأن عدد المهاجرين يفوق الجغرافية السكانية لعدد من الدول، وانتشار القنصليات في كل مكان نحس أحيانا أن هناك بلدا اسمه الجزائر فقط من خلال مشجعي الفريق الوطني كما استهجن غياب اعلام يهتم بالثقافة وكل أشكال التعبير الفني، ومن ثمة غياب العمل النقدي الجاد، وحاولنا في هذا الحوار الذي جمعنا مع شاعرنا أن نسلط الضوء على تجربته الشعرية، ورؤيته لواقع الشعر والشعراء في الجزائر، عند الآخر في الضفة الأخرى من البحر المتوسط فكان هذا الحوار.. ”الفجر”: في مضمار الشعر وجدت نفسك تعدو.. ترى كيف بدأت التجربة الشعرية لعمار مرياش؟ عمار مرياش: ”.. مازلت أجري، وأنهكني الجري خلف الغيوم التي سوف تمطرُ.. لقد كشفوني أحفر فوق ضلوع الشجيرات .. حرفين لاسمي ولاسمك..قلبا بسهمين والدم يقطرُ.. كنت سرابا على شكل فاتنة.. ما استطعت الوصول إليك..” لا أعرف، في البداية كان الرمل والسراب لا شك، الواقع والحلم، المعطيات والوعد، لكن ما أغراني منذ البدء هو الإيقاع واللون، الشعر عندي ليس فقط ما يكتب كنص، الشعر حالة وجودية مذهلة الروعة، بدأت تجربة الكتابة الشعرية محاولا تقليد مطربي المفضل عبد الحليم حافظ كنت في الحادية عشر من عمري ربما، وكانت عندما لا تعجبني بعض كلمات الأغنية، أغيرها، ومع التجربة تعلمت كيف أغير الأغنية كاملة محافظا على الإيقاع فقط، ثم تعلمت كيف أغير الإيقاع، ثم كيف أغير الأفكار، ثم تعلمت كيف أغير البناء، هكذا تجاوزت بداياتي، ثم مع ”اكتشاف العادي” تعلمت كيف أتجاوز نفسي وكتاباتي السابقة. تعيش في أحضان الغربة منذ ما يزيد عن 10 سنوات، ماذا أضافت تجربة اغترابك عن الوطن إلى روح الشاعر فيك؟ الغربة علمتني الكثير، علمتني أنني لا شيء تقريبا، شيء ذاهب في الصغر ولا أهمية له، باريس مدينة عريقة لها تاريخ ولها حاضر حيوي وثري، مدينة مكتنزة، ممتلئة، مكثفة بامتياز، من الصعوبة بمكان اختيار نشاط ثقافي لحضوره مثلا وذلك لكثرة النشاطات، في كل زقاق أو شارع هناك مسرح أو سينما أو نشاط ثقافي وهناك مجلات متخصصة فقط في النشاطات الثقافية، مدينة يتعايش فيها مواطنون جاءوا من مختلف أنحاء العالم بكل التنوع في ثقافاتهم ولغاتهم وألوانهم ويتعايشون في سلام وأمن، في باريس كل شيء له قيمة وكل متر من الأرض يخلقون له أهمية تاريخية أو ثقافية أو سياحية، حتى أن مقبرة مثل مقبرة بير لاشاس بوسط باريستعد بمثابة متحف سياحي وحضاري فريد، يزوره السواح من كل فج.. تصوري مرة وجدت ساحة صغيرة في باريس ولافتة كتب عليها عبارة مثل:”هنا لم يحدث أي شيء يوم 18 أفريل 1978”، وهذه الساحة يأتيها السواح أيضا، باريس مدينة تخلق أهميتها وترقيتها كل يوم، في باريس يمكن أن تجلسي على صخرة منسية في زقاق صغير ثم سرعان ما تنتبيهين الى لافتة كتب عليها ”على هذه الصخرة جلس نابليون بونابرت يوم كذا وكذا”، كما يقول المرحوم محمد بوضياف. ما مدى تواصلك مع الوسط الشعري الجزائري وأنت بعيد؟ اليوم، الجغراقيا ليست عائقا في وجه التواصل، ثمة الطائرة والهاتف، وثمة الأنترنيت أيضا، وهي وسيلة مذهلة للتواصل، حيث يمكنك التواصل بالصوت والصورة مع أشخاص على بعد آلاف الكيلومترات، حدث أن أنجزت أعمالا لألمان وإنجليز عن طريق الأنترنت، حتى اللغة لم تكن لدينا لغة مشتركة، أعتقد أن هناك أكثر من وسط شعري جزائري، هناك أوساط شعرية جزائرية، وطبعا أنا أتواصل مع بعضها، أعتقد أنني لا أعرف كل من هو موجود، هل تعرف وزارة الثقافة الجزائرية الحساسيات أو الاتجاهات الأدبية في الجزائر؟، هل أحد يعرف ما يوجد في الجزائر؟.. طبعا البعض يتصل بي عن طريق موقعي الإلكتروني والبعض أتواصل معه عن طريق الفايس بوك والشبكات الاجتماعية الأخرى، أنا لدي حنين كبير لكل ما هو جزائري وأسال الذين أنا على اتصال معهم عن الذين لا أعرفهم أو لست على اتصال معهم، قبل يومين أرسل الي الشاعر عبد العالي مزغيش نصوصا لأدباء شباب ليعرفني بكتاباتهم، وحتى هو تعرفت عليه عن طريق الأنترنيت، هناك تواصل جيد في اعتقادي. هل تراك مطلعا على التجارب الشعرية الجزائرية الحديثة؟ وما رأيك في تلك التجارب؟ في الماضي كنت مطلعا بشكل جيد، كانت هناك مجلة آمال وصفحات ثقافية قارة في الجرائد، ثم أنشأنا القصيدة، كنت أعرف كل الشعراء، الآن لا أعرف، لو فقط لدينا مجلة شعرية متخصصة تمكننا من مسايرة حركية الإبداع في الشعر، هذا لا ينفي أنني أعرف 90 في المائة مما يكتب، ولدينا شعراء ممتازين مقارنة بالشعراء العرب، لكن بالمقابل ليس لدينا نقد ولا نقاد، واعلامنا الأدبي ليس قويا، بل ضعيفا جدا جدا. كيف ترى الحركة الأدبية في الجزائر وأنت بعيد عنها، وهل يصل نتاجنا الثقافي والإبداعي إلى الآخر؟ - سآخذ فرنسا نموذجا، مقارنة بدول صغيرة الحجم والدخل القومي والجالية المتواجدة في فرنسا، الجزائر دولة خاصة، الجزائر دولة لها حوالي مليوني جزائري في فرنسا، هذا الرقم يشكل عشرة أضعاف سكان دول بكاملها، لإعطاء فكرة بسيطة، إن عدد الجزائريين في فرنسا يفوق عدد سكان دولتي البحرين وقطر مجتمعتين، ومع ذلك ففي المجال الثقافي يبقى حضور الجزائر محتشما، وغريب أيضا، نحس أن هناك بلدا اسمه الجزائر فقط من خلال مشجعي الفريق الوطني، مع أن الجزائر لها قنصليات كثيرة ومركز ثقافي رائع يمكنه نظريا أن يقوم بدور متميز، ما معنى أن تصلني دعوات من المركز الثقافي الكندي والمركز الثقافي الياباني باستمرار ولا تصلني مرة واحدة دعوة من المركز الثقافي الجزائري؟. وحتى في معهد العالم العربي الذي يرأسه جزائري فإننا لا نعثر في مكتبته على الكتب الجزائرية حين نريد اقتناءها. عموما الحضور الثقافي الرسمي هزيل جدا.. تصوري، في الكثير من النشاطات الثقافية العربية نلتقي بسهولة سعادة سفير الامارات العربية لدى اليونسكو أو سفيرة سوريا أو مدير المركز الثقافي المصري أو الملحق الثقافي لسفارة الكويت، ولكن لن نعثر أبدا على مسؤول جزائري. الإيجابي جدا أن بعض الجمعيات الثقافية ذات الأغلبية الجزائرية تلعب أدوارا رائعة من خلال تدريس الموسيقى الأندلسية أو اللغة العربية أو تنظيم الرحلات الى غير ذلك رائع، هذا رائع. بين مشاغل الحياة اليومية وأعبائها وبين هم الكتابة.. أين يجد الشاعر عمار مرياش نفسه؟ في أوقات كثيرة أشعر بالضياع المطلق، أنا أحب القراءة الكتابة وأحلم بالتفرغ للكتابة، أحلم كثيرا بهذا حتى أنني مازلت أحلم بالعودة الى المدرسة، ولكنني شاعر والشعر كما يقولون ليس سلعة جيدة في السوق، وهذا أكيد وبديهي، بعد ذلك أن أتمزق بين رغبة جامحة في الهيام والشعر والجنون والإبداع وبين واقع جد قاس يسيره جباة الضرائب ومحاسبو شركات الكهرباء والمياه والغاز والمدارس وشركات الإيجار وشكات الضمان ووووو.. مؤسسات كثيرة تقتات على وجودنا يوميا، لكن الشعر يحتلني أكثر ويأخذ من وقتي حصة الأسد، دائما أنجز أعمالي الأدبية التي لا تدر أي دخل على حساب أعمالي المهنية التي هي مصدر رزقي، لكن هذا ليس مصدر شقاء لي، عندما أكتب قصيدة جديدة أشعر أنني خلقت من جديد وهذا لا يقدر بثمن.. انه أمر رائع. اليوم تقام للشعر مسابقات محلية وعربية ودولية، كيف تنظر إلى هذه المسابقات وإلى الأسماء الشعرية التي تولد مع هذه التجربة؟ الجوائز اعتراف وتقدير لمستوى الإبداع والدفع به الى الواجهة، وهذا مهم للغاية وضروري للغاية ولكن هذا نظريا، عمليا المؤسسات التي تمنح الجوائز صارت تمارس السياسة، وهذا قتل للإبداع، وكلما استثمرت المؤسسة الثقافية التسييس كلما ازدادت خطورتها على الإبداع ومستقبل الوعي والحس الجماعي، هناك مؤسسات لديها أموال طائلة وتشجع الشعر العمودي والموسيقى الصاخبة والارتجال والفخر، أي كل القيم البدوية والقبلية بينما تحتاج مجتمعاتنا الى مستقبل مدني مستقر، مخطط هادئ عقلاني ومتواضع. متى يمكن للقارئ الجزائري أن يطلع على انتاجك الأدبي؟ وماذا تحضر لهذا القارئ في المستقبل القريب؟ هذا العام ، صدر لي في تونس، ديوان شعري بعنوان ”الحبشة ، يليها النبي” ، هذا الكتاب سيوزع في الجزائر في شهر سبتمبر الجاري، لدي كتاب آخر ينتظر طبعة في الجزائر قبل نهاية السنة، وكتاب ثالث قيد التصحيح، بالإضافة الى هذا القارئ الجزائري يمكن أن يقرأني في كل وقت في أي مكان تتوفر فيه الأنترنيت عن طريق موقعي الإلكتروني ”عالم الشاعر العربي الجزائري عمار مرياش”، ويكمنه التواصل معي من خلاله، وهذا يسعدني كثيرا لأنني أزور موقعي مرة في اليوم.