ظاهرة الانتحار تزداد اتساعا في وسطنا الاجتماعي، وتتسلل شيئا فشيئا إلى مختلف الفئات العمرية، والى الجنس اللطيف وخاصة الفئات والمراهقات منه، حيث لم تعد أرقام الانتحار تختلف عن أرقام ضحايا حوادث المرور باعتبارها حربا دامية غير معلنة تواصل حصد الأرواح في صمت 100 محاولة انتحار منذ بداية 2010 في أم البواقي منها 21 محاولة خلال أوت المنصرم ولبحث الموضوع بشكل مركز ودقيق، اخترنا ولاية أم البواقي كعينة طارئة بخصوص الظاهرة، تكون قد التحقت بولايات أخرى عانت وماتزال من تكرار مشاهد الانتحار اليومية، وعلى رأسها تيزي وزو. فقد سجلت مصالح الأمن بولاية أم البواقي، خلال شهر أوت المنصرم، 21 محاولة انتحار، منها 15 محاولة أقدمت عليها فتيات منهن 10 قاصرات. وقد أوضح المكلف بالإعلام بخلية الإتصال أن الظروف الإجتماعية المزرية التي تتخبط فيها بعض العائلات بالولاية، هي السبب في إقدام هذا العدد من الأشخاص، كل شهر، على محاولة الإنتحار باستعمال وسائل مختلفة، على غرار تناول المواد الكيميائية و مبيدات الحشرات وحامض الأسيد وماء الجافيل . مع نهاية النصف الأول من العام 2010 كشف مصدر صحي بولاية أم البواقي ل “الفجر”، عن عدد حالات الإنتحار المسجلة بالولاية، والمقدرة ب 100 محاولة انتحار، أفضت إلى وفاة 10 أشخاص غالبيتهم نساء، مع احتمال تخطيها سقف ال150 أو أكثر قبل نهاية العام الجاري.. هي حصيلة مرعبة توضح بجلاء ذلك التنامي المطرد والخطير لظاهرة الإنتحار التي أصبحت الحل المفضل لكثير من المواطنين للأسف الشديد. وفي عام 2009، كشفت الإحصاءات الرسمية عن 65 محاولة انتحار في أم البواقي، وفي العام الذي سبقه 2008 كان عددها 50 محاولة انتحار، أما العام الحالي فقد بلغت الحصيلة رقمًا مهولًا هو 100 محاولة انتحار، وهو يمثل عدد الحالات المعلن عنها حتى الأسبوع الأول من شهر أوت الجاري، دون حساب عدد الحالات غير المعلنة، والتي تقدر هي الأخرى بالعشرات، حسب مصادر طبية مطلعة. كما كسفت دراسات طبية محلية أن الإنتحار بولاية أم البواقي في تزايد مستمر، ومن المحتمل أن يصبح في السنوات القليلة المقبلة أكثر انتشارًا، وتبني تلك الدراسات تأكيدها على تطور ظروف الحياة باتجاه عكس آمال الناس وطموحاتهم. وقد أجمعت الدراسات على خطورة الظاهرة التي تفشت بشكل مخيف وغير مسبوق، وأبدت أسفًا مشوبًا بالقلق، لأن هذه الظاهرة لا تلقى اهتمامًا في الجزائر رغم الأخطار التي تنجّر عنها، ليس في قضية الميل للإنتحار فحسب، ولكن لما لها من تأثير على الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية، إذ ينعدم لدى المقبل على الانتحار الإحساس بالتجدد والإبداع وروح المبادرة، ليصبح مشلولا عقليًا لا يفكر إلّا في الهروب من واقع الحياة والعزوف عن التفاعل الإيجابي هروبًا إلى اللامبالاة والإنسحاب من مسرح الحياة بقتل نفسه التي حرّم الله قتلها إلا بالحق. يصنف الدكتور عباسي بدر الدين، الأخصائي في الأمراض العصبية والعقلية، الشخص المنتحر - كائنًا من كان - بالمريض النفسي غير المتزن عقليًا وتفكيرًا وإدراكًا، ومن هنا تأتي تصرفاته اللاحقة ضد نفسه انطلاقًا من مفهومه الذهني والعقلي، فقضية الإنتحار بنحر نفسه تعني أن المريض وصل إلى طريق مسدود في قدرته التفكيرية ولم يعد ير أمامه إلّا الموت، ولا شيء غير الموت، لتخليص نفسه المريضة من متاعب الحياة الكثيرة والمتشعبة، لاعتقاده الخاطئ أنه يخلصها من المعاناة. فيما يُرجع الأستاذ بوكرمة علاء الدين، الأخصائي الإجتماعي، أسباب الانتحار إلى تفشي البطالة بين الشباب، غلاء المعيشة، انعدام السكن، الإرهاب الإداري، الحڤرة والمحسوبية. وتلمح دراسات طبية إلى انتشار الإنتحار بشكل أكثر بين أوساط النساء، كما تؤكد زيادة حالات الإنتحار في ولاية أم البواقي، والتي تزداد من يوم إلى آخر بين الشبان، خاصة بين الفتيات بالذات واللاتي هن في عمر الزهور.. ممتنعات عن الحياة راغبات في القبور. فمن بين 100 محاولة انتحار المسجلة إلى غاية الأسبوع الأول من شهر سبتمبر 2010، هناك 77 محاولة انتحار سجلت في أوساط العنصر النسوي، والأسباب متعددة، من بينها الفشل الدراسي، الفشل العاطفي، الفضائح الأخلاقية، والعنوسة. ولا يرى الأستاذ بوكرمة حلًا أو جوابًا لتفاقم الظاهرة لدى الجهات المعنية.. وستزداد حالات الإنتحار إن لم تتخذ إجراءات وقائية فاعلة للحد من الظاهرة.. وإلا ستستشري هذه الظاهرة الخطيرة لتصبح صناعة محلية بامتياز تحول حياة مواطني الولاية إلى جحيم. البطالة، غلاء المعيشة، انعدام السكن، الفشل في الدراسة، الحرمان العاطفي، العنوسة، الحڤرة، المحسوبية والمحاباة.. المشاكل متعددة تكاد تخنق الجميع.. عندها يصبح النحر الذاتي أو الإنتحار هو الحل الوحيد.. رغم أن معادلة الحياة لها حلول متعددة بغض النظر عن صعوبتها!. إنها ثقافة اليأس والقنوط التي صار الجزائريين ضليعون في إنتاجها بكل مهارة وإبداع.. فهم الأوائل والسباقون في إنتاج اليأس الذي يعبّد الطريق إلى الانتحار، كيف لا والأوضاع تتجه من سيء إلى أسوأ.. وليس في الأفق فسحة من أمل. خبراء نفسانيون:”%70 من المنتحرين تعود أسباب انتحارهم لأمراض عقلية” يقول الدكتور فهيم حرز الله، الإختصاصي في الطب النفسي، أن 70% من المنتحرين في الجزائر تعود أسباب انتحارهم لأمراض عقلية، و30% لأسباب إجتماعية، وأن النساء أكثر قابلية للإنتحار بنسبة الضعف إلى الرجال، وأن الأمراض النفسية المؤدية إلى الإنتحار هي الكآبة الشديدة والقلق المزمن والفصام والإدمان الدوائي (مخدرات وكحول)، واضطراب الصدمة وما بعد الصدمة، واضطراب الشخصية. أما الأسباب الاجتماعية فهي: ضغوط العائلة على الأبناء، والإحباط الناجم عن الفقر والتفكك الأسري، وتدهور منظومة المبادئ الأخلاقية والاجتماعية بين الناس، وضعف الإيمان بالله تعالى. وأشار الدكتور حرز الله إلى ضرورة الإنسجام بين الإنسان ونفسه، والإنسان ومجتمعه، وقبل ذلك ضرورة جودة العلاقة الوطيدة بين الإنسان وربه، لما في ذلك من مردود إيجابي على النفس الإنسانية نظراً لحاجتها إلى الشعور بالإطمئنان النفسي والإستقرار الروحي، وكذلك ضرورة معرفة أن ما يطرأ على النفس ينعكس على الجسد سلباً وإيجاباً. وأشار حرز الله إلى ضرورة الإبتعاد عن المخدرات والكحول، ورفع المستوى الاقتصادي للعائلة الجزائرية، وتوفير فرص العمل للشباب العاطل المحبط، وضرورة توفير الأمن وسيادة العدالة والقانون، وضرورة نشر الوعي الديني فيما يتصل بحرمة قتل النفس، والقضاء على حالات الإرهاب والخطف والإجرام، وكذلك العناية والاهتمام بالأسرة الجزائرية مادياً ومعنوياً، والمحافظة على العلاقات الأسرية والقيم الاجتماعية التي تشد من لحمة العلاقات بين الناس بعضهم مع بعض.. حتى يشعر الإنسان المحبط أو من لديه مشكلة أنه وسط أسرته وأصدقائه ومجتمعه، فلا يشعر بالغربة والوحدة، بل يجد من يشاركه همه وينفس عن كربته ويخفف من صدمته. ويتابع..”نحن نؤكد أهمية الإتصال المبكر بالمؤسسات الصحية النفسية لغرض تدارك المرض النفسي، ومعالجته في مراحله المبكرة قبل تدهور الحالة وانتهائها بالإنتحار. ونبه الدكتور حرز الله إلى قضية مهمة تتصل بالشبان وذويهم، وهي أهمية التعامل السليم مع الأولاد، فهم يحتاجون إلى رعاية خاصة وذكاء في طريقة التعامل معهم، خصوصاً في مثل هذه الظروف المعيشية الصعبة التي يمر بها الشعب الجزائري وحرمان أغلب الشبان من تحقيق أحلامهم والوصول إلى مطالبهم، فالأسرة تتحمل مسؤولية كبيرة، وكذلك المجتمع والدولة ومنظمات المجتمع المدني والمؤسسات و الجمعيات الخيرية من أجل خلق ظروف ملائمة للسلام والمحبة والوئام”. رأي الدين..”المؤمن لا يأسف أو يحزن على شيء من حطام الدنيا” أما في الشريعة الإسلامية، فيجمع العلماء على حرمة قتل الإنسان لنفسه بصريح الآية الكريمة: “ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما”، وأن الذين يتعمدون قتل أنفسهم لهم عقاب أليم لأنه دليل على اليأس من رحمة الله سبحانه وانطفاء نور الأمل في نفسه، فالمؤمن لا ييأس من رحمة الله تعالى حتى وإن أغلقت أبواب الأمل في وجهه، فالباب الوحيد الذي يظل مفتوحاً هو باب رحمة الله تعالى بعباده. هذا ما قاله لنا الإمام عبد الرشيد عيساني - أحد أئمة أم البواقي - الذي أضاف أن الصبر من أعظم الصفات التي يؤكد عليها الإسلام، ويدعو المسلم إلى التحلي بها في أحلك الظروف التي ممكن أن يمر بها الإنسان في حياته، وأعظم الأنبياء منزلة أكثرهم ابتلاءً وأكثر الناس أجراً أصبرهم على مكاره الحياة وأكثرهم أملاً ورجاءً برحمته التي وسعت كل شيء واليأس من رحمة الله بمثابة الشرك بالله تعالى. ويتابع.. “الأمل في الإسلام رفيق الإنسان المؤمن واليأس عدوه، فالمؤمن لا يأسف أو يحزن على شيء من حطام الدنيا فضلاً من أن يقتل نفسه من دنيا يصفها القرآن الكريم أنها لهو ولعب وفتنة وابتلاء ومحطة اختبار لمعادن الناس لكي يتأهلوا للفوز بالجنة التي أعدت للمتقين والصابرين، ولكن الجنة التي يشتاق إليها عشاق الشهادة الحقيقيون، والتي هي مبعث الأمل داخل النفس الإنسانية، هي بالتأكيد غير جنة هؤلاء الذين يقتلون أنفسهم ويفجرون أجسادهم وسط الأبرياء طمعاً في جنة لا وجود لها إلا في عقولهم المريضة، والمحزن في الأمر أنهم يفعلون ذلك باسم الإسلام حتى شوهوا صورة الإسلام وعامة المسلمين”. الإنتحار.. أو عندما تصبح المشكلة حلًا !! من جهة أخرى، فإن الإنتحار لم يُبق على فئة من الفئات الاجتماعية بمختلف أعمارها ومستوياتها إلّا هاجمها ونشب أظافره فيها، غير أن المرأة احتلت نصيب الأسد نتيجة الظروف الإجتماعية التي تعيشها المرأة في ولاية أم البواقي المحافظة، والتي يعتبر مجتمعها ذكوريًا بامتياز، إضافة إلى الموروث القائم على إلغاء دور المرأة وحصره في إطار ضيق جدًا لا يتعدى الإنجاب و الطبخ.. حتى أن تعليم المرأة ونحن في الألفية الثالثة لا يزال البعض ينظر إليه على أنه عيب ونقيصة وخروج عن العادات والتقاليد والمألوف، و ظهر ذلك بشكل واضح في حالة العزوف من الزواج بالجامعيات، لذا نجد الإنتحار حليف كثير من النساء عكس الرجال. إن تعتيم الجهات المعنية على الأرقام الحقيقية لحالات الإنتحار بولاية أم البواقي تنبئ بتزايد خطير لحالات الإنتحار، ما يلقي بظلال قاتمة على الأوضاع الإجتماعية التي تظهر إفرازاتها بردود أفعال كارثية، قد تدخل الجزائر في دوامة من المشاكل والآفات هي في غنىً عنها. وما ينبغي لفت الانتباه إليه هو أن الدولة لا تزال تتجاهل ظواهر أصبحت تهدد الجزائريين في حياتهم وكيانهم بشكل جدي من بينها ظاهرة الإنتحار، فالجزائريون، خاصة فئة الشباب، أصبحوا عن الحياة مدبرين وعلى الموت مقبلين. في أوائل التسعينيات وأثناء بداية الأزمة الأمنية في الجزائر.. كان الجزائري يأمل في أن تُشرق عليه شمس يوم جديد كدلالة على عشقه للحياة التي كان يعّز على الجزائري آنذاك الحفاظ عليها.. اليوم وبعد أن أصبحنا ننعم بحياة آمنة ومستقرة نوعًا ما، أضحى بعض الجزائريين يهرولون نحو الموت بأرجلهم هروبًا من مشاكل الحياة.. فيا لها من مفارقة غريبة وعجيبة. على الدولة أن تفتح كتاب الموتى المنتحرين، الذي لم يغلق حتى الآن، ولا يبدو أنه سيُغلق بل أعداد صفحاته السوداء المكتوبة بمداد دماء الأبرياء تزداد يومًا بعد آخر..!