خَفَتَ الحديث عن الفساد في الجزائر.. فهل اتفق المفسدون على أن نشر غسيلهم أمر يضرهم ولذلك أوقفوا الحديث عن الفساد؟! أم أن الخيّرين في هذا البلد الذين أعلنوا الحرب على الفساد قد نجحوا في لجمه؟! لسنا ندري! لكن كل ما نعرفه أن هناك شبه سكوت مريب بخصوص الملفات الفسادية التي فتحت! وهل الأمور ما تزال تسير في الاتجاه الصحيح الذي يتطلبه التحقيق في هذه الملفات التي فتحت.. أم أن الأمور تتجه نحو البحث عن منافذ لإغلاق الملف لأنه أصبح الحديث عنه يزعج النظام أكثر من مشاكل الإرهاب؟! إغلاق الملف هذا بداية بالكف عن إطلاع الرأي العام على تقدم التحقيقات فيه ثم بتصفيته بإطلاق سراح من كانوا جواميس فداء في هذا الملف.. وترتيب الأمور على مستوى التحقيق وإعلان النتائج.. كل ذلك قد يدل على أن الأمر لم يكن سوى هوشة سياسية واقتصادية بين أجنحة في السلطة انتهت بإبعاد من يراد إبعاده من السلطة بواسطة ملفات الفساد المعلنة ثم ينتهي الأمر إلى البراءة.. وقد يؤدي الأمر إلى تعويض جواميس الفداء بمبالغ هامة عن تسويد صورتهم. وإذا كانت هناك من نتيجة يمكن أن تذكر في مثل هكذا صراعات بين الزمر السياسية التي تراشقت بملفات الفساد لتصفية بعضها البعض.. إذا كان هناك من نتيجة فهي أن بعض الذين يخدمون السلطة بإخلاص قد أصبحوا في ريب منها.. إذ أنها قد تعمد إلى تقديمهم كأضحيات لأسباب سياسية أو غير سياسية! الغريب أن رجال النظام الذين يذبحون كباش فداء يعتبرون متسخين.. ويبقى النظام نظيفا زلالا كماء سعيدة أيام زمان! انتهى ملف مكافحة الفساد بانتهاء الصراع والخلاف بين الزمر السياسية المتصارعة على المناصب والمنافع.. لكن تداعيات مثل هذه الأمور تكون كارثية على مستوى سمعة الأشخاص والدولة والسلطة.. وعلى مستوى العبث بالقانون والمؤسسات. نعم ينبغي للسلطة أن تكف نهائيا عن حكاية استخدام الفساد في الحرب السياسية وغير السياسية بين الزمر المتصارعة.. لأن مثل هذه الأمور لا تساد في بناء دولة القانون ودولة المؤسسات ودولة الحق والعدل. لقد قابلت منذ أيام أحد أعضاء الحكومة.. ووجدته محبطا إلى حد بعيد.. وعندما سألته عن السبب قال لي إنه يؤدي واجبه في الحكومة بجد وإخلاص.. ولكنه شديد الخوف من أن يكون ضحية في صراع الأقوياء على المناصب والنفوذ وقد تكون وزارته ضمن الوزارات التي يشملها الصراع..! لهذا فهو يدعو الله ليل نهار بأن يحسن عاقبته وأن يخرج من الوزارة نظيفا كما دخلها أول مرة.. وأن لا يتم لفه بملف فساد كاذب بسبب حسبته على جهة معنية أتت به إلى الوزارة بناء على كفاءته ونظافته! وعندما سألت هذا الوزير عن الطريقة التي يمكن أن تخرجه بها البلاد من هذه الوضعية الكارثية في عمل المؤسسات والرجال وتطبيق دولة القانون وليس دولة الزمر المافياوية المتصارعة على المنافع والمناصب.. قال لي هذا الوزير بحسرة إن هذا يكون ببناء مؤسسات حقيقية للدولة توضح بالقانون الطرق الموصلة للسلطة وكذلك الوسائل لإبعاد الناس من السلطة! حتى الآن هذه القيم غير موجودة في بلادنا وفي مؤسساتنا.. لذلك نرى حكاية تصفية الحسابات بين أجهزة السلطة هي الغالب الأعم في إسناد المسؤوليات وإبعاد الناس منها بواسطة الظلم أحيانا وبواسطة الحق في أحيان قليلة! وفهمت من هذا الوزير أن الفساد ليس هو ممارسة الرشوة ونهب المال العام.. إنما الفساد الحقيقي هو ممارسة إسناد المسؤوليات لمن هم غير مؤهلين لها.. وإبعادهم منها بعد ذلك بواسطة الصراعات وليس بسبب الأخطاء ولهذا فإن المحاربة الحقة للفساد تبدأ من إصلاح أجهزة إسناد المسؤوليات للناس.. وهذه المسألة لا تتحقق إلا ببناء مؤسسات حكم حقيقية تمارس الحكم أمام الرأي العام والشعب.. وتقدم الحساب عن كل عمل تقوم به للشعب. والديمقراطية والشفافية لا يمكن أن تبنى في أي بلد إلا إذا كانت لصيقة بالحساب والمساءلة.. وأن يكون المسؤول مسؤولا أمام السائل الواضح الذي يسأله وليس أمام ضمير مستتر تقديره هو!؟ وهكذا فإن الذي يقلق البلاد الآن ليس فقط الإرهاب، بل إن حكاية معالجة الفساد بالفساد هي أيضا أساس متاعب البلاد وسبب في متاعب سمعة السلطة لدى الشعب. ولا يبدو أن مثل هذه المسائل الحيوية يمكن أن تعالج في المنظور القريب.. ما دامت الأمور ما تزال حبيسة الصراعات وحبيسة إرادات الزمر المتصارعة بالسلطة وحول السلطة!