منذ أسابيع تسرب إلى أجهزة الإعلام أن الرئيس بوتفليقة ينوي إحداث تغييرات سياسية كبيرة تمس حل المجلس الشعبي الوطني، وانتخاب مجلس تأسيسي يقوم بإعداد دستور جديد. وإثر هذه التسريبات بقطع النظر عن صحتها أو عدم صحتها، توالت التعليقات في الأحزاب والصحافة. أبرز ما في هذه التعليقات التصريحات التي أدلى بها كل من الوزير الأول السيد أحمد أويحيى، والسيد عبد العزيز بلخادم الأمين العام لحزب جبهة التحرير الوطني، والتي محتواها أن الجزائر لا توجد فيها أزمة سياسية تقتضي حل المجلس الوطني أو إنشاء مجلس تأسيسي. الشخصان عضوان في التحالف الرئاسي الذي يطبق برنامج الرئيس. جاءت هذه التصريحات وكأنها رد على ما جاء في تلك التسريبات من نوايا الإصلاح التي ينوي الرئيس القيام بها. يضاف إلى هذا عدم الرد على الرسالة التي بعث بها عبد الحميد مهري والمسندة من آيت أحمد، كل ما جاء في هذا العرض يدل على الارتباك الموجود في هرم السلطة بكل مكوناته. وأن النظام ما يزال متأخرا، وأنه لا يملك رؤية واضحة عن التغييرات السياسية وغير السياسية التي تحتاج إليها البلاد. وليست له الإرادة الكافية والمصممة للعمل الجاد لإحداث تلك التغييرات. النظام بوضعه الحالي عاجز عن إحداث أي نوع من التحولات الإرادية، غير قادر على طرح المبادرة التاريخية لتغيير مسارنا الوطني في الجزائر المستقلة، فهو أسير لثقافة ترسخت لعقود من طبيعة تنظيم وتسيير الحكم والممارسة السياسية النمطية، ثقافة تزداد انغلاقا وترديا مع مرور الزمن، وتزداد معها الهوة بين السلطة والمجتمع اتساعا، الأمر الذي جعل حظوظ التغيير الجذري والحاسم تتضاءل، مما أفقد النظام القدرة على اتخاذ المبادرة الجريئة في اتجاه التغيير، وأضاع على البلاد الفرص العديدة لإحداث التحولات الكبرى. التغيير كان مطلوبا مباشرة بعد وفاة الرئيس بومدين، فالجزائر، بفضل دينامكية السبعينيات اكتسبت خبرة كبيرة في مجال التسيير، وفي قطاعات حيوية؛ في الصناعة والتعليم العالي، والتربية الوطنية والخدمات كان يمكن بما يحدث عليها من تعديلات بقانون التجربة والخطإ، أن تصحح مسارنا التاريخي في مرحلة انتقالية هامة، لكن هذا لم يحدث، رغم أن المؤتمر الرابع طرح شعار المراجعة لا التراجع. ميدانيا وقع التراجع ولم تتم المراجعة، أدخلنا تعديلات عشوائية على المشروع التنموي الوطني من غير أن نقدم بدائل حقيقية تحافظ على وتيرة التنمية الوطنية، لم تراع التحولات التي طرأت على المجتمع مع دخول إطارات الاستقلال الميدان. كان نتيجة ذلك التخبط استفحال الأزمة الاقتصادية، تبعتها أحداث أكتوبر الدامية. هذه الأحداث كانت مرحلة حاسمة واضحة الدلالة، مضمونها أن النظام الذي أنشأناه عبر أزمة 1962 التاريخية قد استنفد قوته، وأصبح عاجزا عن استيعاب وتسيير الجزائر المستقلة. الأحداث كانت فرصة للتحول إلى مشروع وطني جديد، ونظام سياسي أكثر ملاءمة للمتغيرات التي حدثت في المجتمع. لم يستوعب الحدث. استمر في المناورة بتغيير مسار الأحداث شكلا من دون التعمق في الجوهر. لم يحدث تغييرا جذريا قاعديا يتناسب مع المطامح الجديدة للمجتمع. استمر في ممارسة الثقافة. النظام لم يستوعب الحدث. فاستمر في المناورة ومحاولة تغيير مسار الأحداث شكلا من دون التعمق في الجوهر. بدل أن يحدث تغييرا جذريا في النظام، تغيير قاعدي يراعي متطلبات التحولات التي وقعت في المجتمع، استمر في ممارسة الثقافة التي ترسخت. تجاهل القاعدة العريقة من المجتمع، مصرا على الاستمرار في ممارسة الثقافة المترسخة التي تحولت إلى عقبة في طريق أي تطور إيجابي مغاير. واختار النظام، كالعادة، الحلول الفوقية. كان هذا واضحا في المؤتمر الاستثنائي 1989، الذي كان مفترضا أن يعالج القضايا الوطنية الكبرى والأسباب التي أدت إلى الأزمة، فكانت نتائج المؤتمر خطوة إلى الوراء، وتكريس الأمر الواقع، والهروب إلى الأمام. فكان أن أدى الأمر إلى استقالة الرئيس الشاذلي والدخول في "ديمقراطية" شكلية بدون إعداد. دخلنا في دوامة الإرهاب الدموية وفي مراحل انتقالية بدون أهداف محددة. نظريا إننا تجاوزنا المرحلة الانتقالية. لكن عمليا إننا ما زلنا نسير بطريقة لا تختلف عن المراحل الانتقالية. إننا إلى الآن لم نبحث عن الأسباب العميقة التي أدت إلى الأزمة، ولا الأسباب التي أدت إلى الجمود السياسي، ولم نبحث عن مشروع ما بعد الأزمة حتى لا تتكرر. في جو هذه الاستمرارية السلبية تطرح الأسئلة حول إصلاحات سياسية بنفس الأسلوب القديم الذي أثبت فشله وفي تجاهل للمجتمع، في ظل فراغ سياسي وفقدان أدوات سياسية فعالة والثقة منعدمة منعدمة في الأحزاب كانت في الحكم أو في المعارضة، وكذلك في السلطة. إننا أمام حالة من العجز أمام مشكلات تراكبت وتفاقمت لما يقرب من ثلاثة عقود، وأمام ثقافة سياسية سلبية تكللت ألا يكفي فيها العلاج إلى حلول جزئية فوقية معزولة. الكلام عن حل المجلس الشعبي الوطني أو إنشاء مجلس تأسيسي وانفتاح قنوات التلفزيون العمومية للأحزاب المعترف بها لا يحل الأزمة الوطنية. ما يحل هذه الأزمة حلا جذريا وشاملا يقتضي القيام بمبادرة تاريخية شاملة وضع الجزائر كلها، بمشاكلها المتراكمة والمتعددة على الطاولة. وفتح المجال ليقول الجزائريون كلمتهم في بلدهم بحرية. التغيير في الجزائر لا يمس السلطة ودواليبها وحدها إنما يشمل كامل المكونات التي تشكل الأزمة الوطنية المتعددة الأبعاد؛ تطهير الحياة السياسية، طبيعة الممارسة السياسية، فالأحزاب الحالية، لجان المساندة التي لقبت زورا بالمجتمع المدني، المنظمات الصورية للمتاجرة بتاريخ الثورة، المؤسسات التشريعية الضرورية وطنيا ومحليا، أوضاع القطاعات الوطنية المهلهلة، التعليم العالي، البحث العلمي، التربية الوطنية، الصحة العمومية، الإدارة، العدالة، بناء الدولة، الديمقراطية، التصنيع، الفلاحة والعمران الفوضوي البشع، الأمن العام، أمن المواطن وأمن الثروة الوطنية. الاتفاق على مجموعة من المسائل التي تتعلق بالتنمية الأساسية. التصنيع، النهوض بالفلاحة. الأمن العام، إنشاء المدن الجديدة عبر الوطن لتوزيع السكان وتوفير العيش الكريم، الأمن، القضاء على آفة التزوير والفساد، عدم استعمال مكونات الوحدة الوطنية في الاستعمال السياسي للدين، اللغة، الجهة. استعمال العنف في العمل السياسي، كل قضية من هذه القضايا الوطنية الكبرى لا تحتاج إلى تغيير تجميلي شكلي وإنما إلى ثورة لإرجاع الأمور إلى طبيعتها السليمة. الشعب الجزائري جاهز اليوم إلى إحداث ثورة ثانية في اتجاه بناء الدولة العصرية، وإقامة ديمقراطية متقدمة خالية من الغش والتزوير وتنظيم حياة سياسية حيوية منفتحة، خالية من العقد والرداءة، وتكوين دولة حديثة قوية بمجتمع قوي حر.