إن لله في أيام دهرنا لنفحات.. تستروحها القلوب التي طالما أضناها الشوق إلى لذة الوصال.. فتذوب في علاقة حميمة نسجت من الحب والخوف والرجاء، تروي شجرتها التقوى والإخبات.. فتتأصل جذورها في الروح؛ ليكون وصالاً أبديًّا لا تطويه السنون، وينأى هؤلاء عمن قصدهم قوله تعالى: {فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم}؛ إذ إن الدنيا ما تكاد تتكالب عليهم حتى يرتشفون عبير نفحات جديدة تعود بهم مرة أخرى إلى ارتقاء الروح في سماء الوصال إلى أستار رحمة المولى سبحانه وتعالى. وها هي نسمات شهر الرحمات وزاد النفحات الربانية تتمايل في الأفق القريب تدعونا لأن نستعد لاستقبالها، حيث تصفد الشياطين وتغلق أبواب النار وتفتح أبواب الجنة وتقبل الدعوات، فضلاً عن ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر. وشهر هذا فضله حقيق بنا ألا نضيعه أبدًا وأن نأخذ بكل الأسباب لنحسن استقباله، ولكي نفعل فعلينا أن نتدبر معًا في مقاصد فريضة هذا الشهر (الصيام). شهر الرحمات لله تبارك وتعالى أيام يتجلى فيها على عباده المؤمنين بالرحمات ويحفهم فيها بالخيرات والبركات. وفضلها على سائر الأيام وخص لياليها بالأسرار والأنوار. فجعل نورها يضئ القلوب ويكشف الكروب. وجعل أسرارها ترقى بأرواح الصالحين إلى رب العالمين نعم المولى ونعم النصير.. وذلك مصداقا لقول الهادي البشير صلى الله عليه وسلم “ألا أن لله في أيام دهركم نفحات إلا فتعرضوا لها. لعل أحدكم تصبه نفحة من نفحات الله”، فيا له من فضل خصه الله لأمة سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم وأي نفحة أعظم من نفحات شهر القرآن شهر الصيام الذي خصه الله سبحانه بذكره وتفصيله على سائر الشهور وذلك في كتابه العزيز {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن}. إن شهر رمضان تفتح فيه أبواب الرحمات وتغلق أبواب النيران. ففيه نزل الهدي والنور وفيه جاء الفرقان الذي فرق بين الحق والباطل، ومن فضل الله على الأمة الإسلامية أنه منحها فضل هذا الشهر الكريم دون غيرها من الأمم، فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الحديث الشريف الذي جاء في فضل شهر رمضان. يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: “أيها الناس قد أظلكم شهر عظيم مبارك. شهر فيه ليلة القدر خير من ألف شهر. شهر جعل الله صيامه فريضة وجعل قيام ليله تطوعا من تقرب فيه بخصلة من خصال الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه. ومن أدى فيه فريضة كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه. وهو شهر الصبر. والصبر ثوابه الجنة. وهو شهر المواساة. وهو شهر يزداد فيه رزق المؤمن. وهو شهر أوله رحمة. وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار”.