يولد الإنسان على الفطرة، معترفا بربّه الذي خلقه، غير أن هذا الاعتراف إن لم ينحرف بفعل فاعل فإنه من الممكن أن يتغيّر صعودا وهبوطا من خلال ظاهرة ضعف الإيمان الذي يعتري النفس البشرية بين الفينة والأخرى وهنا على المسلم تجديد إيمانه وإحياؤه، ويتناسب مع هذا الفعل -إحياء الأيمان إذا بلى- أن يقوم المسلم ببعض الأمور التي ترفع وتقوّي باعث الدين فيه، ومن هذه الأمور جملة الخطوات التالية: - التمعّن في مشهد النعمة والإحسان، فإن الكريم لا يقابل من أحسن إليه بالإساءة وإنما يفعل هذا لئام الناس فليمنعه مشهد إحسان الله تعالى ونعمته عن معصيته، حياء منه أن يكون خير الله وإنعامه نازلا إليه ومخالفاته ومعاصيه صاعدة إلى ربه، فملك ينزل بهذا وملك يعرّج بذاك. - التمعّن في مشهد الغضب والانتقام، فإن الله تعالى إذا تمادى العبد في معصيته غضب وإذا غضب لم يقم لغضبه شيء، فضلا عن هذا العبد الضعيف. - الحذر من المعصية التي يفوت بها خير الدنيا والآخرة وما يحدث للمسلم بها من كل اسم مذموم عقلا وشرعا وعرفا ويزول عنه من الأسماء الممدوحة شرعا وعقلا وعرفا ويكفي في هذا المشهد مشهد فوات الإيمان الذي أدنى مثقال ذرة منه خير من الدنيا وما فيها أضعافا مضاعفة، فكيف أن يبيعه بشهوة تذهب لذاتها وتبقى تبعتها، وقد صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن"، قال بعض الصحابة ينزع منه الإيمان حتى يبقى على رأسه مثل الظلة، فإن تاب رجع إليه، وقال بعض التابعين ينزع عنه الإيمان كما ينزع القميص، فإن تاب لبسه ولهذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم "الزناة في التنور عراة"، لأنهم تعروا من لباس الإيمان وعاد تنور الشهوة الذي كان في قلوبهم تنورا ظاهرا يحمى عليه في النار. - تذكّر وعد الله سبحانه وتعالى بتعويض من ترك المحارم لأجله ونهى نفسه عن هواها. - استحضار مشهد المعيّة، وهو نوعان: معية عامة ومعية خاصة، فالمعية العامة هي اطلاع الرب على المسلم وكونه بعينه لا تخفى عليه حاله، والمقصود هنا بالمعية الخاصة كقوله تعالى "إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِين" وقوله "إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُون" وقوله "وَإِنَّ اللَّهَ لَمَع الْمُحْسِنِين"، فهذه المعية الخاصة خير وأنفع في دنيا المسلم وآخرته. - الحذر من المغافصة والمعاجلة، وهو أن يخاف أن يغافصه الأجل فيأخذه الله على غرة فيحال بينه وبين ما يشتهي من لذات الآخرة. - استذكار أمر البلاء والعافية، فإن البلاء في الحقيقة ليس إلا الذنوب وعواقبها والعافية المطلقة هي الطاعات وعواقبها، فأهل البلاء هم أهل المعصية وإن عوفيت أبدانهم وأهل العافية هم أهل الطاعة وإن مرضت أبدانهم. - أن يعوّد المسلم نفسه على تغليب باعث الدين ودواعيه لمصارعة داعي الهوى، فيدرك لذة الظفر، فتقوى حينئذ همته، فإن من ذاق لذة شيء قويت همته على تحصيله، والاعتياد على ممارسة الأعمال الشاقة تزيد القوى التي تصدر عنها تلك الأعمال، ومن ترك المجاهدة بالكلية، ضعف فيه باعث الدين وقوي فيه باعث الشهوة، ومتى عوّد نفسه على مخالفة الهوى غلبه متى أراد. - قطع العلائق والأسباب التي تدعو إلى موافقة الهوى، وليس المراد أن لا يكون للإنسان هوى، بل المراد أن يصرف هواه إلى ما ينفعه ويستعمله في تنفيذ مراد الله سبحانه وتعالى، فإن ذلك يدفع عنه شر استعماله في معاصيه، فإن كل شيء من الإنسان يستعمله لله فإن الله يقيه شر استعماله لنفسه وللشيطان وما لا يستعمله لله استعمله لنفسه وهواه ولا بد، فالعلم إن لم يكن لله، كان للنفس والهوى، والعمل إن لم يكن لله، كان للرياء والنفاق، والمال إن لم ينفق في طاعة الله أنفق في طاعة الشيطان، والهوى والجاه إن لم يستعمله لله استعمله صاحبه في هواه. - صرف الفكر إلى عجائب آيات الله التي ندب عباده للتفكر فيها وهي آياته المتلوّة وآياته المجلوّة، فإذا استولى ذلك على قلبه دفع عنه محاظرة الشيطان ومحادثته ووسواسه، وما أعظم غبن من أمكنه أن لا يزال محاظرا للرحمن وكتابه ورسوله والصحابة، فرغب عن ذلك إلى محاظرة الشيطان من الإنس والجن. - التفكر في الدنيا وسرعة زوالها وقرب انقضائها، فيرضى المسلم لنفسه أن يتزوّد منها إلى دار بقائه. - تعرضه لمن القلوب بين أصبعيه وأزمة الأمور بيديه وانتهاء كل شيء إليه على الدوام، فلعله أن يصادف أوقات النفحات كما في الأثر "إن لله في أيام دهره نفحات، فتعرّضوا لنفحاته واسألوا الله أن يستر عوراتكم ويؤمن روعاتكم"، ولعل في كثرة تعرّض المسلم أن يصادف ساعة من الساعات التي لا يسأل الله فيها شيئا إلا أعطاه. - أن يعلم العبد بأن فيه جاذبين متضادين ومحنته بين الجاذبين؛ جاذب يجذبه إلى الرفيق الأعلى من أهل عليين، وجاذب يجذبه إلى أسفل سافلين، فكلما انقاد مع الجاذب الأعلى صعد درجة حتى ينتهي إلى حيث يليق به من المحلّ الأعلى، وكلما انقاد إلى الجاذب الأسفل نزل درجة حتى ينتهي إلى موضعه من سجين، ومتى أراد أن يعلم هل هو مع الرفيق الأعلى أو الأسفل، فلينظر أين روحه في هذا العالم، فإنها إذا فارقت البدن تكون في الرفيق الأعلى الذي كانت تجذبه إليه في الدنيا، فهو أولى بها، فالمرء مع من أحب، وكل مهتم بشيء فهو منجذب إليه وإلى أهله، وكل امرئ يصبو إلى ما يناسبه. قال تعالى "قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِه". - أن يعلم العبد أن إفراغ المحل شرط لنزول غيث الرحمة، وتنقيته من الدغل شرط لكمال الزرع، فمتى لم يفرغ المحل لم يصادف غيث الرحمة محلا قابلا ينزل فيه وإن فرغه حتى أصابه غيث الرحمة، ولكنه لم ينقه من الدغل، لم يكن الزرع زرعا كاملا، بل ربما غلب الدغل على الزرع، فكان الحكم له وهذا كالذي يصلح أرضه ويهيئها لقبول الزرع ويودع فيها البذور وينتظر نزول الغيث، فإذا طهر العبد قلبه وفرغه من إرادة السوء وخواطره وبذر فيه بذر الذكر والفكر والمحبة والإخلاص وعرضه لمهاب رياح الرحمة وانتظر نزول غيث الرحمة في أوانه كان جديرا بحصول المغل، وكما يقوى الرجاء لنزول الغيث في وقته، كذلك يقوى الرجاء لإصابة نفحات الرحمن جل جلاله في الأوقات الفاضلة والأحوال الشريفة. - أن يعلم العبد أن الله سبحانه وتعالى خلق لبقاء لا فناء له ولعز لا ذل معه وأمن لا خوف فيه وغنا لا فقر معه ولذة لا ألم معها وامتحنه في هذه الدار بالبقاء الذي يعجّل إليه الفناء والعز الذي يقارنه الذل ويعقبه الذل والأمن الذي معه الخوف وبعده الخوف وكذلك الغنا واللذة والفرح والسرور والنعيم الذي هنا مشوب بضده لأنه يتعقبه ضده وهو سريع الزوال، فغلط أكثر الخلق إذ طلبوا النعيم والبقاء والعز والملك والجاه في غير محله ففاتهم في محله وأكثرهم لم يظفر بما طلبه من ذلك والذي ظفر به إنما هو متاع قليل وزوال قريب.