كان من هَدْيه صلى اللَّه عليه وسلم في شهر رمضان، الإكثارُ من أنواع العبادات، فكان جبريلُ عليه الصلاة والسلام يُدارسه القرآن في رمضان، وكان إذا لقيه جبريل أجودَ بالخير من الريح المرسلة، وكان أجودَ الناس، وأجود ما يكون في رمضان، يُكْثِرُ فيه مِن الصدقة والإحسان، وتلاوة القرآن، والصلاة، والذِّكرِ، والاعتكاف. وكان يَخُصُّ رمضانَ من العبادة بما لا يَخُصُّ غيرَه به من الشهور، حتى إنه كان ليُواصل فيه أحياناً لِيُوَفِّرَ ساعات لَيلِهِ ونهارِه على العبادة، وكان ينهى أصحابَه عن الوصال، فيقولون له إنَّك تُواصل، فيقول: (لَسْتُ كَهَيْئَتِكُم إنِّى أَبِيتُ وفى رواية: إنِّى أَظَلُّ عِنْدَ رَبِّى يُطْعِمُنى وَيَسْقِينى). وقد اختلف الناسُ في هذا الطعام والشراب المذكورَيْنِ على قولين: أحدهما: أنه طعامٌ وشراب حِسِّى للفم، قالوا: وهذه حقيقةُ اللفظ، ولا مُوجِبَ للعدُول عنها . الثانى: أن المرادَ به ما يُغذِّيه اللَّه به من معارفه، وما يَفيضُ على قلبه مِن لذة مناجاته، وقُرةِ عينه بقُربه، وتنعُّمِه بحبه، والشوقِ إليه، وتوابع ذلك من الأحوالِ التي هي غذاءُ القلوب، ونعيمُ الأرواح، وقرةُ العين، وبهجةُ النفوسِ والرُّوح والقلب بما هو أعظمُ غذاء وأجودُه وأنفعه، وقد يقوى هذا الغذاء حتى يُغْنىَ عن غِذاء الأجسام مدةً من الزمان، كما قيل: لَها أحَادِيثُ مِنْ ذِكْراكَ تَشْغَلُهَا ** عَنِ الشَّرَابِ وَتُلْهِيهَا عَنِ الزَّاد ِلَها بِوَجْهِكَ نُورٌ تَسْتَضِىءُ بِهِ ** وَمِنْ حَدِيثِك في أعْقابِهَا حَادِى إذا شَكَتْ مِن كَلالِ السَّيْرِ أوْعدَهَا ** رَوْحُ القُدومِ فَتَحْيا عِنْدَ ميعاد ومَن له أدنى تجربةٍ وشوق، يعلم استغناء الجسم بغذاء القلب والروح عن كثير من الغِذاء الحيوانى، ولا سيما المسرورَ الفرحانَ الظافرَ بمطلوبه الذي قد قرَّت عينُه بمحبوبه، وتنعَّم بقربه، والرِّضى عنه، وألطاف محبوبه وهداياه، وتحفه تصل إليه كُلَّ وقت، ومحبوبُه حفى به، معتنٍ بأمره، مُكرِمٌ له غايةَ الإكرام مع المحبة التامة له، أفليسَ في هذا أعظمُ غِذاء لهذا المحب فكيف بالحبيب الذي لا شئ أجلُّ منه، ولا أعظم، ولا أجملُ، ولا أكملُ، ولا أعظمُ إحساناً إذا امتلأ قلبُ المُحِبِّ بحبُه، ومَلَكَ حبُّه جميعَ أجزاء قلبه وجوارحه، وتمكَّن حبُّه منه أعظمَ تمكُّن، وهذا حالُه مع حبيبه، أفليس هذا المُحِبُّ عند حبيبه يُطعمُه ويَسقيه ليلاً ونهاراً؟ ولهذا قال:(إنِّى أَظَلُّ عِنْدَ رَبِّى يُطْعِمُنى ويَسْقِينى). ولو كان ذلك طعاماً وشراباً للفم، لما كان صائماً فضلاً عن كونه مواصلاً، وأيضاً فلو كان ذلك في الليل، لم يكن مُواصِلاً، ولقال لأصحابه إذ قَالُوا له: إنَّك تُواصِلُ:(لَسْتُ أواصلُ). ولم يقل:(لَسْتُ كَهَيْئَتِكُم)، بل أقرَّهم على نسبة الوصال إليه، وقطع الإلحاق بينه وبينهم في ذلك، بما بيَّنه من الفارق، كما في صحيح مسلم، من حديث عبد اللَّه بن عمر، أن رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم واصل في رمضان، فواصلَ الناسُ، فنهاهم، فقيل له: أنت تُواصِلُ، فقال:(إنِّى لَسْتُ مِثْلَكُم إنِّى أُطْعَمُ وأُسْقَى) وسياق البخارى لهذا الحديث: نهى رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم عَنِ الوِصَال، فقالوا: إنك تُواصِلُ قال:(إنى لَسْتُ مِثْلَكُم إنِّى أُطْعَمُ وَأُسْقَى). وفى (الصحيحين) من حديث أبي هريرة: نهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن الوِصَال، فقال رجل من المسلمين: إنكَ يا رسولَ اللَّه تُواصِل، فقال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: (وأَيُّكُم مِثْلى، إنِّى أَبيتُ يُطْعِمُنى رَبِّى وَيَسْقِينى). وأيضا: فإن النبى صلى الله عليه وسلم لما نهاهم عن الوِصَال، فأبوا أن ينتهوا، واصلَ بهم يوماً، ثم يوماً، ثم رأوا الهلال فقال: (لو تَأَخَّرَ الهِلال، لزِدْتُّكم) . كالمُنكِّل لهم حينَ أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا عَنِ الوِصَال . وفى لفظ آخر: (لو مُدَّ لنا الشَّهْرُ لوَاصَلْنا وِصَالاً يَدَعُ المُتَعَمِّقُون تَعَمُّقَهم، إنِّى لَسْتَ مِثْلَكُمْ أو قال: إنَّكُم لَسْتُم مِثْلى فإنِّى أَظَلُّ يُطْعِمُنى ربِّى ويَسْقِينى) فأخبر أنه يُطعَم ويُسقَى، مع كونه مُواصِلاً، وقد فعل فعلهم منكِّلاً بهم، معجِّزاً لهم فلو كان يأكل ويشرب، لما كان ذلك تنكيلاً، ولا تعجيزاً، بل ولا وِصَالاً، وهذا بحمد اللَّه واضح . وقد نهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن الوِصَال رحمة للأُمة، وأذِن فيه إلى السَّحَر، وفى صحيح البخارى، عن أبي سعيد الخدرى، أنه سَمِعَ النبىَّ صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تُواصِلوا فَأَيُّكُم أراد أنْ يُواصِل فَلْيُوَاصِل إلى السَّحَر) .