بضعة أشهر وتحل الذكرى الخمسين للاستقلال واسترجاع السيادة الوطنية. خمسون سنة من المفروض أنها كافية لبناء اقتصاد وطني وصناعة وطنية تغنينا عن الارتباط بالواردات، فلدينا النفط والسواعد والأرض الواسعة التي تكفي لاحتضان آلاف المصانع والجامعات تخرّج مختصين في شتى الصناعات: النسيج والغذاء والصناعات الثقيلة وغيرها. لكن بعد خمسين سنة من الاستقلال، ومن نهضة صناعية كانت في السنوات الأولى للاستقلال مفخرة الجزائر، قبل أن توأد في المهد، يخرج تجار "الشيفون" يلعنون القوانين ويحتجون على قانون صادق عليه البرلمان يمنع استيراد "الشيفون". "يا عيب الشوم"، على حد قول أهل الشام، ألا نستحي مما وصلت إليه البلاد، %99 من حاجياتنا الاستهلاكية تصلنا في حاويات، فضلات المصانع من أوربا وآسيا وأمريكا؟!! أتذكر وأنا طفلة في السنوات الأولى للاستقلال، أننا كنا نتعفف من لبس صدقات أمريكا التي قدمتها للجزائر المستقلة من ألبسة "الشيفون" وكانوا يقولون إنها ألبسة الموتى تجمع ليتصدق بها على فقراء إفريقيا، ولم تكن هناك مصانع نسيج، لكن كانت هناك نساء حرات، يصنعن ألبسة أبنائهن بأنفسهن، من خياطة وحياكة. وجاءت مصانع النسيج التي كانت تتحدى المنتوجات الغربية وعرفت البلاد ألبسة راقية تحمل ماركة "سونيتاكس" وأخرى من مصانع حمياني الخاصة "أقمصة رادمان"، الماركة ذات السمعة العالمية التي كانت تقدم هدية للرؤساء والشخصيات.. ودار الزمان، واختفت أقمصة "ردمان" وذهبت مصانع "سونيتاكس" هباء منثورا، فالتي لم تحرق في عز الأزمة الأمنية، أفلست بفعل فاعل، لتترك السوق فاغرة فاها إلى حاويات المستوردين الخواص، وظهر بارونات "الشيفون" من تبسة إلى وهران، وظهرت طبقة أثرياء جدد ممن تخصصوا في استيراد هذه المادة المقرفة، ولأن الحاجة ماسة إلى الاستهلاك أمام سرعة النمو الديمغرافي، وجد تجار "الشيفون" الفرصة سانحة ليفرضوا على البلاد منطقهم، ولأن لهم باع ويد طولى في السلطة، سكتت هذه الأخيرة تواطؤا أحيانا، ولأنها لا تملك البديل أحيانا أخرى، وهي ترى مصانع السبعينيات توصد أبوابها وتطرد عمالها، سكتت عن هذه التجارة المقرفة التي في الحقيقة تضر بسمعة بلد في حجم الجزائر وعزة الجزائريين. واليوم لا أدري إن كان هذا القرار نابع من غيرة على الاقتصاد الوطني وحماية للمستهلك الوطني، أم فقط عن مشاحنة بين البارونات من مختلف التخصصات.. ها هي الجزائر بعد نصف قرن من الاستقلال واسترجاع السيادة الوطنية تشهد عراك مواطنيها في شوارع المدن دفاعا عن حقهم في تجارة "الشيفون"، أي فضلات المستهلكين في الدول الأخرى، لأن هذا من حقهم، ومن حقهم الاستيراد ما داموا لا ينتجون.