_ 1 _ .. ونسينا الذكرى الخمسين للاستقلال؟؟؟ ها نحن على بعد خطوتين من الذكرى الخمسين للاستقلال، ولا شيء تحرك؟ لا شيء في الأفق يتحرك تحضيرا لهذا الاستثنائي. هكذا هم نحن دائما، لا نأخذ الوقت الكافي كي نحضر شؤوننا المصيرية، حتى تستوي على نار هادئة وعاقلة. هكذا نحن، كأنما خلقنا على عجل، لكي نعيش إما في الاستعجال أو التأخير. بلد شؤونه كلها بين الاستعجال والتأجيل. .. وحين، فجأة، ينتبه من يهمهم الأمر من ذوي الأمر والسلطان، حين يصحون من نومهم "على الواقف" ويدركون بأن الوقت المتبقي لا يكفي لتحضير احتفال استثنائي بالذكرى الخمسين لاستقلال جاء بعد ثورة استثنائية عظيمة: حين ذاك يشهرون ألسنتهم بكل اللغات ويرفعون "وطنية" فلكلورية فيها كثير من المزايدة و"الثوروية"، ويسمعون الناس خطبا جاهزة وبائتة. الاحتفال بذكرى الاستقلال يتطلب وقتا للتفكير ووقتا للتحضير في هدوء وتوأدة يستطيعان أن يقنعا قوافل الشباب أن تنضم وجدانيا وفلسفيا إلى موكب الاحتفال بالنصر وبالوفاء للشهداء والذاكرة، وليعرفوا أن هذا البلد كم هو ثمين ترابه وكم هو عظيم وجليل تاريخه. _ 2 _ الذاكرة ليست الماضي، إنها الحاضر وهي المستقبل أيضا: الذين كانت زغرودة ميلادهم مختلطة مع زغرودة الاستقلال في 5 يوليوز 62 بعد أيام سيبلغون نصف قرن من عمرهم: نعم نصف قرن بالعد والتعداد!! آه كم يمضي العمر سريعا!! نقول هذا الكلام بمرارة وتألم وتأمل أيضا ونحن نتابع ما يكتب عن الثورة وعن صناع استقلالها لنكتشف من خلال النقاش الدائر وردود الفعل واختلاف الرؤى القادمة من أجيال وحساسيات سياسية مختلفة، نكتشف كم هي جذور الثورة الجزائرية ثابتة العروق وكم هم صناع الاستقلال برمزيتهم في الشجاعة والإقدام والصبر لا يزالون يصنعون يومياتنا ويحددون مستقبلنا. على عتبة الذكرى الخمسين للاستقلال، هذا كتاب سعيد سعدي حول البطل الشهيد عميروش يحرك نقاشا عاصفا بين تشكيلات الطبقة السياسية ويحرك أقلام المؤرخين ويرج ذاكرة الفاعلين الميدانيين في الثورة، يحرك الجميع من أعلى هرم الطبقات السياسية على اختلاف رؤاها إلى سؤال المواطن البسيط على رصيف بارد. على عتبة الذكرى الخمسين للاستقلال، هذا نقاش جاد وحاد آخر، نقاش يجري على الضفتين حول مشروع تجريم الاستعمار في جهة الجنوب ومشروع تكريم الاستعمار بين بقايا مخلفات نوسطالجيا الشمال الاستعماري. على عتبة الذكرى الخمسين للاستقلال، هذه حملة عنصرية تشن ضد فيلم عن الثورة الجزائرية يدخل بجرأة جمالية وفكرية الدورة 63 لمهرجان كان الدولي: فيلم "الخارجون على القانون" للمخرج الجزائري المبدع رشيد بوشارب. على عتبة الذكرى الخمسين للاستقلال، هذا نقاش حول مشروع فيلم عن الشهيد "عبان رمضان" للمخرج المثقف أحمد راشدي. على عتبة الذكرى الخمسين للاستقلال، هناك نقاش آخر كان قد حركه الوضع الصحي والمادي الذي آلت إليه حال المناضلة جميلة بوحيرد. على عتبة الذكرى الخمسين للاستقلال، هذا الكاتب والأديب صادق بخوش يغرق في سيناريو فيلم جديد عن الشهيد العقيد لطفي بعد أن كان قد كتب بنجاح سيناريو فيلم مصطفى بن بولعيد الذي أخرجه أحمد راشدي ويحظى باستقبال متميز من عشاق الشاشة الكبيرة في بعض الصالات التي وصل إليها. على عتبة الذكرى الخمسين للاستقلال، هذا الشاعر والوزير المكلف بالاتصال عز الدين ميهوبي يضع اللمسات الأخيرة لسيناريو فيلم عن شهيد المقصلة الأول أحمد زبانا بعد أن كان قد كتب سيناريو مسلسل رمز المقاومة الشعبية لالة فاطمة نسومر. على عتبة الذكرى الخمسين للاستقلال، هذا فيلم آخر عن الولاية الثالثة بعنوان "سباع الجبال" للمخرج احسن عصماني. على عتبة الذكرى الخمسين للاستقلال، هذا الروائي رشيد بوجدرة يدخل معمعة النقاش بروايته الأخيرة "الصبار" التي تعرض فيها لمصير استشهاد بعض أبطال الثورة: عميروش والحواس وعبان رمضان وكريم بلقاسم. على عتبة الذكرى الخمسين للاستقلال، هذا نقاش من نوع آخر، نقاش المثقفين والأدباء وحتى بعض السياسيين، حول ألبير كامو وموقفه السلبي من استقلال الجزائر، وذلك في رد فعل ضد تنظيم قافلة ثقافية أدبية كانت مقررة أن تجوب الجزائر بمناسبة الذكرى الخمسين لوفاة هذا الأديب الحاصل على جائزة نوبل. نعم يعلمنا هذا النقاش الدائر حول الشهداء والمجاهدين: عميروش والحواس وعبان رمضان وكريم بلقاسم وابن بولعيد ولطفي وزبانا وكريم بلقاسم وجميلة بوحيرد وغيرهم، يعلمنا هذا كله، نحن أبناء الاستقلال، بأن الثورة ليست من أشياء وأمور البارحة بل هي من أمور وشؤون راهننا الذي عليه نؤسس الغد... يعلمنا النقاش الدائر هذا وبهذا الزخم والحساسية كيف نؤسس وبمناسبة الذكرى الخمسين لاستقلال بلادنا "خطابا" جادا وجديدا نواجه به النيوكولونيالية التي تتلبس لبوسا في كل وقت حفاظا على مواقعها داخل السلطة والمؤسسات الفاعلة... يعلمنا هذا النقاش كيف نستقبل الذكرى الخمسين للاستقلال بعيدا عن الفلكلوروية والتهريج... يعلمنا هذا النقاش بكل ما فيه من سلب وإيجاب أن علينا، وبمناسبة الذكرى الخمسين للاستقلال، أن نغير من عاداتنا في الاحتفال بالثورة، أن نفكر بجد في التأسيس لمؤسسة علمية ثقافية تهتم بأرشيف الثورة وبذاكرتها حتى نعيد للاستقلال رمزيته وقوته في مخيال الجزائريين جميعا، بعيدا عن أمراض الحسابات الشخصية أو البطولات الفردية أو الجهوية. يعلمنا هذا الاحتفال بالذكرى الخمسين للاستقلال (ونحن في ذلك متأخرون) أن نؤسس لمكتبة كبيرة (مكتبة الجزائر الكبرى) خاصة بكتب الثورة الجزائرية وامتداداتها في إفريقيا وأمريكا اللاتينية وآسيا. وأن نجمع في هذه المكتبة الخمسة آلاف عنوان وأكثر التي كتبت في لغات العالم جميعها عن الثورة الجزائرية وأبطالها من الشهداء والمجاهدين، من اليابانية مرورا بالصينية والبلغارية والسواحلية وصولا إلى الإنجليزية والألمانية وغيرها من اللغات الأوروبية المعروفة. يعلمنا هذا الاحتفال بالذكرى الخمسين للاستقلال بأن علينا أن نقوم وبكل هدوء، بعيدا عن التنشيطوية الموسمية والمزايدات الكلامولوجية الثوروية، بوضع خطة جادة وعميقة تتمثل في ترجمة ما كتب عن الثورة من أدب وتاريخ وفكر تكلف بذلك مجموعة من أهل العلم والفكر والأدب واللغات، وأن تتولى رئاسة الجمهورية الإشراف على ذلك مباشرة، وأن يطالب كل من تحمل مسؤولية عمل بنتائج عمله قبل ثلاثة أشهر من يوم الاحتفال الذي دون شك ينتظره الجزائريون وغير الجزائريين. _ 3 _ قبل أيام احتفلت السنغال بعيد استقلالها الخمسين، كان احتفالا نموذجيا في بلد فقير وربما باستقلال غير مكتمل، استقلال يعود فيه الفضل الكبير لضربات الثورة الجزائرية التي استعجلت فرنسا كي تمنح الاستقلال لهذه الدول الإفريقية كي تتفرغ، في المقابل، كلية لمواجهة الثورة الجزائرية. ولكن السنغاليين على قلة الحال وفراغ الجيب استطاعوا أن يسجلوا لبلدهم ولإفريقيا وبهذه المناسبة شيئا سيظل على مدى التاريخ رمزا لا ينسى، وأعني بهذا ذاك المجسم الذي دشنه الرئيس السنغالي تذكارا للحرية mémorial ورسالة ضد العبودية التي عانت منها لقرون شعوب إفريقيا السوداء، لم "يأكل" تمثال السنغال المال العام ولم يسدل عليه الستار بعد أن مرت فرق "القرقابو" في الشوارع وصفق التلاميذ الذين يسحبون من مقاعد مدارسهم كما هو حال احتفالاتنا نحن، بل ستتحول هذه "المَذْكَرَة "mémorial إلى مزار الملايين من عشاق الحرية في العالم، وسيجلب مداخيل ليست أقل من مداخيل البترول الجزائري بكل "وجع الرأس" حوله؟؟؟ نعم هكذا احتفل السنغاليون بالذكرى الخمسين لاستقلالهم وهكذا تفوقوا ونجحوا في ذلك لأنهم بدؤوا التحضير له منذ خمس سنوات. فمتى يا ترى تخرج احتفالاتنا بذاكرتنا وبشؤوننا الجادة من "الارتجال" و"الاستعجال" والبريكولاج، فالتاريخ كما الذاكرة لهما قدسية ولهما علينا سلطان كبير. أنا لا أحلم وليس هذا بحلم، لأنني أتحدث عن ثورة حولت الحلم إلى واقع، وفخور أنا كبقية جيل الاستقلال بانتمائنا إليها، ومن له الإيمان بمثل قيم هذه الثورة له الإيمان ذاته بأن أحفاد صناع الاستقلال قادرون على صناعة مستقبل للاستقلال تسوده العدالة ويملأه الفرح والسعادة والخير. سنلتقي قريبا، سنلتقي ذات عشية 5 يوليوز 2012 فكيف سيكون يومنا يومذاك يا ترى؟؟؟