لست أستطيع الخروج من البيت بسبب العدةّ، حتى أذهب إلى العبزوزي أو إلى بيت أمي وأحضر قهوتي خضراء كما يشتهي خاطري، العقونة ليست تتمكن من حل الأمر، يمكن الاتكال عليها في جميع الأشغال عدا أن تكون رسولاً ناطقاً. يمكنني الخروج إلى بهو البيت وأن أطلب من أحد أولاد سعدة إحضار العبزوزي، أو حتى تدبر أمر رطل من القهوة، لكن بعد حكاية الطلاق الأخيرة؛ سيصير ذلك لقمة صائغة كي تبدأ نساء البيت في أكل لحمي من جديد. عندما تركني زوجي الثاني تحالف نسوة البيت كلهن، وتركن أزواجهن أسبوعاً كاملاً احتجاجاً على وجودي في البيت من دون رجل. قالت الأولى: لا يمكن العيش مع الغاوية. ردت الثانية: عليها أن تترك البيت كي نعود إلى أزواجنا. بالغت الثالثة: لقد رأيتها تغمز لزوجي كي تجره إلى غرفتها، إنها لا تخاف الله. وحدها سعدة كانت إلى جانبي.. في الحقيقة هي إلى جانب مصلحتها، أنا أدفع لها كل سنة مقدار ست موزونات ذهبية، ورغم ذلك رضخت في النهاية لأصوات زوجات أبنائها، وإلى تذمر أبنائها وقررت طردي، فما كان على العبزوزي سوى تزويجي للمرة الثالثة، لا أعرف لِمَ لا ينتهي معي عذاب هذا البيت البائس، لو أني أبيع ذهبي.. سيكفي ذلك لشراء بيت مستقل. - أين ستجدين بيتاً؟؟ لا أحد يبيع بيته في مدينتا؛ حتى الذين يرحلون يوصدون أبوابهم ويتركونها للأشباح ولا يبيعونها، البيوت عندنا مقدسة وتعني الكثير، وكل العار للذي يجرؤ على التفريط فيها حتى ولو كانت تساوي كنوز الدنيا. يردد العبزوزي ذلك كلما أعلنت تذمري، لكني هذه المرّة سأتحالف مع راحتي، لن أتزوج قط كي تخرس الألسنة من حولي.. يكفيني ما حدث، أحتاج أن أبقى بمفردي طويلاً كي أخيط كل هذه الجروح الغائرة. صبرت على القهوة أربعة أيام متتالية، بقيت معصبة الرأس طوال الوقت بسبب الصداع الذي ورطني فيه غيابها، في اليوم الخامس دقت سعدة باب غرفتي في لهاث أفزعني، هي لا تدق بابي إلا إذا كان في الأمر ما ينفعها، وعاشوراء بعيدة! - ينتظرك رجال الباشا آغا فاروق في الخارج. أسدلت وشاحي على رأسي وخرجت، لاحظت أن الرسول لا يحمل مؤونة ولا أكياسا، كان برفقة ثلاثة بغال يحملون سروجهم الفارغة في ضجر. - عليك الذهاب معنا في الحال إلى البيت الكبير في الدَاميات. - لا يمكنني ذلك، أنا في أشهر عدتي، هل حدث مكروه ما؟ - إنه أمر الباشا آغا فاروق وعليك مرافقتي. - إذن اذهب إلى بيت خالي العبزوزي وأحضره، لن أخرج معك من دونه. - نعم.. نعم في الحال. ربط الرسول بغاله في شجرة قريبة وانطلق نحو بيت العبزوزي في الربوة المقابلة، بينما قابلتني الظنون من كل جهة. - ماذا يريد فاروق؟ أكاد أجزم أن مكروها ما حدث، هناك عضة واضحة في وجه الرسول، دخلت غرفتي بسرعة تاركة عيونَ سعدة والنسوةَ في حيرتهن، بدأت بتحضير نفسي، يهمني كما في كل مرة أن أكون جميلة أمام زينب، لقد فضلني الباشا آغا حمدان يوما ما عليها، عليها أن تتأكد دوما أنني الأجمل رغم عينيها السماويتين وبشرتها الوردية. ارتديت أجمل ما عندي، وضعت كحلاً، رتبت ملابس زهور ومشطت لها شعرها، لم أكن قد أنهيت عندما عاودت سعدة دقّ بابي بذات الرجفة. - يعاود الرسول السؤال عنك وهو برفقة العبزوزي، خير إن شاء الله؟ - سأذهب إلى الدَاميات.. الباشا آغا فاروق يطلب رؤيتي ولا أعلم السبب. سلّمت عليها وعلى النسوة اللواتي كن خلفها ثم خرجت مسرعة، بدا العبزوزي على غير لونه، حمل عني زهور وأنا أتأهب للصعود على ظهر البغل، أحب وقع حوافر البغال وهذا العلو من فوقها، منذ زمن لم أركب بغلاً، ثبتت زهور على ظهري في حزام قماشي متين، مشينا لبعض الدقائق ثم توقف العبزوزي قائلا: - صحيح يا ابنتي أنني أنوب عن أهلك، لطالما اعتبرتك ابنة حقيقية لي، لكن أعتقد أن مجيء والدتك معنا هذه المرّة سيكون أفضل. اقشعر بدني لحديثه، ثم صرخت في وجهه: - أخبرني ماذا هناك، أخبرني في الحال؟ لاح صمت طويل بيننا قبل أن يفلت العبزوزي من حدة عيوني السوداء: - لا أعرف، ولكن من المؤكد أن الباشا آغا فاروق يحتاجك لأمر هام. ترسخ أمر جديد في رأسي، بدا وكأنه الحقيقة الأكيدة، لقد علم الباشا آغا فاروق بأمر طلاقي، ربما سيؤنبني أو سيحتجزني عنده في الدَاميات إلى جانب ولدي إبراهيم، سيقول لي: - لقد أخذت نصيبك بعد المرحوم في زواجين، حان الوقت كي تتفرغي للعناية بولدك إبراهيم بيننا. بدأت أرتب الكلمات التي سأتحجج بها، سأقول له لا يمكنني ترك زهور وأمي، زينب أيضا لا تطيقني، سأبكي قليلا ثم أطلب منه أن يتدبر لي بيتا في عزيز إلى جانب أمي ولن أتزوج مطلقاً. هذا حل جميل سيريحني أكثر، قد يستطيع بنفوذه أن يحقق لي ذلك، لن تقف في وجهه أعراف باهتة تجعل البيوت لا تباع ولا تشترى في مدينتي، ربما سيقوم ببناء بيت لي بعدما فشلت في ذلك، لا أعرف.. ربما سيكون شجاعاً هذه المرّة ويعرض علي الزواج، لقد أسّر لي خادمه عثمان بذلك ذات مرّة.. قال لي: - لولا خوف الباشا آغا فاروق من زينب لكان عرض عليك الزواج. هل سيفعل ذلك؟ سأقبل عرضه كناية في زينب، ستموت على يدي لو حدث ذلك، سوف تخرج عيناها وتصاب بشهقة كبيرة تودع على إثرها الحياة، لطالما رغبت في رؤيتها تنتهي غيظاً مني. دخل العبزوزي بيت والدتي وعاد بها في الحال، توقعت أن يسمح لها زوجها بذلك، كلهم طماعون والباشا آغا لا يخرج أحد من بيته فارغ اليدين، سيجزي كثير العطايا لأمي التي لم يرها منذ زمن. مشينا بسرعة تحت أشعة الشمس الحارقة في عز الصيف، ظل الرسول يردد: - لابد أن نصل قبل العصر. يرد العبزوزي: - سنصل لا تقلق، لا يزال الضحى في أوله. عاود هذا القلق شدي إلى احتمالات أخرى، أمي لا تتكلم ونظراتها نحوي مكسورة، كأنما لا تريد أن تتلقى عيوننا في خبط لفتات يحددها المسير وانكسار خطوات البغال، كما أنها لم تسألني عن حالي. - كنت أود أن أرسل إليك أحد ما يأتيني ببعض القهوة، تصوري لم أشرب القهوة منذ أيام. - وقت القهوة يعني؟ قالت ذلك في وشوشة خفية إلا أنها وصلتني، هم يعرفون سبب ذهابنا لا محالة، ولكنه وقت القهوة، لقد نالت مني الشمس وتحدد الصداع في شق واحد من رأسي، شددت البغل من لجامه في غضب وصرخت: - أريد أن أستريح قليلاً في الظل، لا يمكنني متابعة المسير، رأسي يكاد ينفجر. - أصبري قليلا يا بنتي، سوف تستريحين حالما نصل البيت الكبير. رددت ذلك أمي في هدوء كي تنال من عنادي التي تعرف شدّة صلابته، لكنني تماديت في طلبي، ونزلت من على البغل. - من غير المعقول كل هذا العذاب.. سأستريح قليلا عند ظل هذه الشجرة. وجدت لي مكانا تحت سدرة شائكة تؤمّن قليل الظل، سقطت بجسدي المنهك على الأرض، ظل ثلاثتهم على ظهور بغالهم يحدقون بي، لكنني لم آبه لأحد؛ فلينتظر هذا الفاروق. لم أكن لأغفو ولكنني كنت بالفعل عكرة المزاج بسبب القهوة والصداع، نامت زهور أمامي بمجرد أن لامس الظل جسدها الصغير، بسببها بقيت تحت الشجرة حوالي ساعة وتزيد. - لا يمكن البقاء هنا أكثر من ذلك، لابد أن نصل سريعاً. بدا الرسول وكأنه سيد قلق سيصّب كامل غصبه في وجهي بعد قليل، كنت سأقوم كي أذكره بحدوده لولا العبزوزي الذي قال: - يا ابنتي.. بجاه النبي انهضي كي نتابع الطريق، قد يحتاجنا الباشا آغا لأمر هام، من العيب أن نتأخر عنه. سحبت أمي الصغيرة من نعاسها وحملتها معها على ظهر بغلها، بينما واصلت تذمري طوال الطريق، كان العصر قد لاح حسب معرفة العبزوزي عندما وصلنا مدخل الطيطري، انطلق الرسول وبغله كما غزال تفرّ من صيادها، لا أفهم لمَ كان العصر هو ذلك الصياد الذي لابد علينا أن نصل قبله، وعندما اقتربنا من السكنات تجمع حولنا الصغار حيث صرخ أحدهم فجأة. - لقد ذهبوا به إلى المقبرة. رمقني الجميع بنظرة لوم حارقة لأنني كنت السبب في تأخرهم، طار الرسول مسرعاً كما البرق نحو موكب الجنازة الذي ظهر لنا مهيباً من بعيد عند مدخل المقبرة، ارتجفت من جوفي وباغتني شلل بارد عندما سمعت أمي تصرخ: - يا وليدي يا إبراهيم.. ما عشت ما شفت دنيا. لعله البغل فهم الأمر بدلاً عني؛ فارتعد مسرعاً، مسكت لجامه بقوة.. تخبطت في داخلي صهوته، انتهينا في ثوان عند مدخل المقبرة، كان الإمام قد بدأ صلاته التي لا ركوع فيها ولا سجود، عندما تخطيت جمع المشيعين وارتميت عند أكفانه، لم أكن بعد قد تيقنت من أنه هو ولدي إبراهيم ابن الثماني سنوات، توقعت أن الأمر كله ضربة شمس مجنونة أخذتني حيث الهذيان والخيالات المفترسة، سحبت القماش الأبيض في ارتعاش.. وإذا بي أتأكد أنه هو إبراهيم، ولدي الصغير الذي لم أره منذ سنة كاملة. سحبته كلية من نعشه وضممته إلى صدري، كان صراخي كما صهوة البغل الذي أعارني شجاعته منذ قليل. - أه.. يا ربي.. أه يا ظالم. تسمّر الجميع من حولي، توقف الإمام عن صلاته، سمعت بكاءً جماعياً هزّ أركان المقبرة، كنت بينهم كما ريح ترتعد وتتلعثم جراء محاولات خائبة للقبض على جوانب الأمكنة، لا ثقل لجسدي، وربما لا جسد لي، فقط ظل يتمايل وعويل ليس يجد صوته بعد، كان يتوجب عليّ أن أبتلع شيئاً ما، شيئا صلبا وعسيرا يتكدس في حنجرتي المختنقة، قبل أن أتفطن إلى وجود هذا الجمع من حولي، أعدت إبراهيم إلى نعشه وبدأت في طرد الجميع. - هيا اذهبوا.. لن يدفن إبراهيم.. سوف ينام معي هذه الليلة فقط.. هيا.. اذهبوا.. تعالوا غداً سوف أسمح بدفنه غداً.. نعم غداً.. سوف ينام معي الليلة.. حملت أحجاراً من على الأرض، تهيأ لي أنني أنزعها من على الحنجرة المخنوقة، رميت بها على الجمع المبهوت الذي لم يجرؤ على عناد حرقة أم ظلت غائبة، ثم تقدم فاروق نحوي ووجهه مغسول بالدموع. - استغفري الله.. هذا حكم العالي. - لا.. لا اذهبوا.. لا.. لا. ضربت الرجال الذين حاولوا تكبيلي، وفجأة تمكنت من الإفلات منهم، هرعت نحو حفرة القبر التي يوجد قربها نعش ولدي، دخلت فيها بالكامل.. تمددت في داخلها وبدأت بتنزيل التراب على وجهي في حركات مجنونة. - نعم..سأدفن بدلاً عنه.. نعم واصلوا صلاتكم.. سأدفن أنا خذوه إلى البيت، خذوه إلى زينب ستعتني به وتربيه كما الملوك، إبراهيم ولدي سيكون كبيركم.. سيصير سيد الجميع.. خذوه..وادفنوني بدلاً عنه.