رغم أن الامام علي بن الحسين كان ابن اثنتي وعشرين سنة عندما حصلت واقعة كربلاء وأستشهاد والده الحسين رضي الله عنه، إلاّ أنه نجا من القتل بعناية الله تعالى حيث كان مريضا طريح الفراش لا يقوى على حمل السلاح، فاستلم زمام الامامة ليكمل مسيرة أبيه الحسين في مواجهة الطغاة ونشر تعاليم الاسلام الحنيف، فتجح في بعثه من جديد، "الأمة العربية" نجحت في الوصول لضريحه لنكشف عن حكاية هذا الامام الكبير . والإمام علي زين العابدين هو علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، اشتهر بعلي زين العابدين وهو الإمام الرابع لدى الشيعة بكل طوائفهم وكذلك لقب بالسجاد وذو الثفنات وزين الصالحين ومنار القانتين، وهو عند أهل السنة واحد من أهل البيت وابن الحسين سيد شباب أهل الجنة، وله من الفضل والعلم ما لا ينكره أحد، وأمه هي شاه زنان وقيل شهربانويه وهي ابنة يزدجرد بن شهريار، وقيل في بعض مصادر أهل السنة أناسمها سلافة . ومن الثابت في كتب الأثر أن الامام علي بن الحسين امتاز بقوة الشخصية وبعد النظر فضلا عن العلم والتقوى حتى عرف بزين العابدين، وقد سعى لتكريس حياته كلها لإبراز خصائص ثورة أبيه الحسين رضي الله عنه وتحقيق أهدافها في مواجهة المشروع الأموي الذي كان يشكل الخطر الأكبر على الاسلام، فتجلى دوره العظيم في عدة مجالات . برز الامام علي زين العابدين على الصعيد العلمي والديني، إماما في الدين ومنارا في العلم، ومرجعا ومثلا أعلى في الورع والعبادة والتقوى حتى سلم المسلمون جميعا في عصره بأنه أفقه أهل زمانه وأورعهم وأتقاهم، فقال الزهري وهو من معاصريه : "ما رأيتُ قرشياً أفضل منه"، وقال سعيد بن المسيّب وهو من معاصريه أيضاً : "ما رأيت قط أفضل من علي بن الحسين"، وقال الإمام مالك : "سمي زين العابدين لكثرة عبادته"، وقال سفيان بن عيينة "ما رأيت هاشمياً أفضل من زين العابدين ولا أفقه منه"، وعده الشافعي أنه : "أفقه أهل المدينة" . وروي عن الصحابي جابر بن عبد الله الانصاري أنه قال: كنت جالسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم والحسين في حجره وهو يلاعبه فقال صلى الله عليه وسلم : "يا جابر، يولد له مولود اسمه علي، إذا كان يوم القيامة نادى مناد ليقم سيّد العابدين فيقوم ولده، ثم يولد له ولد اسمه محمّد، فإن أنت أدركته يا جابر فاقرأه منّي السلام" ( رواه ابن كثير في البداية و النهاية جزء 9). وما ورد في مصادر أهل السنة عنه أنه ولد سنة 38 ه، وتوفي سنة 93 أو 94 ه بالمدينةالمنورة، و هو ابن ثمان و خمسين. وقال شعيب بن أبي حمزة، عن الزهري: كان علي بن الحسين من أفضل أهل بيته، وأحسنهم طاعة، و قال معمر، عن الزهري: لم أدرك من أهل البيت أفضل من علي بن الحسين. وقال ابن وهب عن مالك: لم يكن في أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل علي بن الحسين، و هو ابن أمة، وقال أبو معاوية الضرير عن يحيى بن سعيد عن علي بن الحسين أنه قال: يا أهل العراق أحبونا حب الإسلام، ولا تحبونا حب الأصنام، فما زال بنا حبكم حتى صار علينا شينا. وقال الأصمعي: لم يكن للحسين بن علي عقب إلا من ابنه علي بن الحسين، و لم يكن لعلي ولد إلا من أم عبد الله بنت الحسن، وهي ابنة عمه ،قال سعيد بن عامر، عن جويرية بن أسماء: ما أكَل علي بن الحسين بقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم درهما قط، وقال يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق: كان ناس من أهل المدينة يعيشون لا يدرون من أين كان معاشهم، فلما مات على بن الحسين فقدوا ما كانوا يؤتون به بالليل. تؤكد المصادر التاريخية أنّ الإمام علي زين العابدين كان حاضرا في كربلاء إذ شهد واقعة الطفّ بجزئياتها وتفاصيلها وجميع مشاهدها لمروعة، وكان شاهدا عليها ومؤرخا لها، ولعله يعتبر أهم مراجعها على الاِطلاق، ولقد ورد في بعض النصوص التاريخية المعتبرة عن أهل البيت في ذكر أسماء من حضر مع الإمام الحسين، أن الإمام علي زين العابدين قد قاتل في ذلك اليوم وقد جرح، إلا أن المؤكد في معظم المصادر التاريخية أو المتفق عليه فيها أنه كان يوم كربلاء مريضا أو موعوكا، وعندما أدخلوا الإمام زين العابدين على ابن زياد سأله من أنت؟ فقال: "أنا علي بن الحسين"، فقال له: أليس قد قتل الله علي بن الحسين؟ فقال الإمام زين العابدين: "قد كان لي أخ يسمى عليا قتله الناس، فقال ابن زياد: بل الله قتله، فقال الإمام علي زين العابدين: (الله يتوفّى الأنفس حين موتها)، فغضب ابن زياد وقال: وبك جرأة لجوابي وفيك بقية للرد علي؟! اذهبوا به فاضربوا عنقه. فتعلقت به عمته زينب وقالت: ياابن زياد، حسبك من دمائنا، واعتنقته وقالت: لا والله لا اُفارقه فإن قتلته فاقتلني معه، فقال لها على: اسكتي يا عمة حتى اُكلمه، ثم أقبل عليه فقال: أبالقتل تهددني ياابن زياد؟ أما علمت أن القتل لنا عادة وكرامتنا من الله الشهادة؟ثم أمر ابن زياد بالإمام زين العابدين وأهل بيته فحملوا إلى دار بجنب المسجد الأعظم. ولنبدأ بحكاية هذا الامام الكبير حينما يدخل موكب السبايا إلى الكوفة، تتقدمه السيدة زينب بطلة كربلاء، والإمام السجاد، ويحتشد الناس لاستقبال الموكب، ويدخل أبناء علي بن ابي طالب إلى الكوفة حيث جعلها علي حاضرة البلاد الإسلامية بالأمس القريب، وتتقدّم زينب بين الناس وكأنها لم تغادرهم بالأمس القريب مع أخيها الحسين إلى المدينة، وأهل الكوفة يعلمون جيدا من هم هؤلاء السبايا والأسرى، لذلك أراد الإمام السجاد أن يصور لهم حجم المجزرة التي تسببوا بها بخذلانهم إمامهم الحسين، فيقول : "أنا ابن من انتهكت حرمته وسلبت نعمته وانتهب ماله وسبي عياله، أنا ابن المذبوح بشط الفرات من غير دخل ولا ترات.."، فيعلو البكاء ليقطعه صوت زينب : "فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً فلقد ذهبتم بعارها وشنارها قُتل سليل خاتم النبوة وسيد شباب أهل الجنة فتعساً لكم وسحقاً فلقد خاب السعي وتبّت الأيدي وبئتم بغضب من الله ورسوله.." لقد سمعوا من خلالها صوت علي بن أبي طالب خليفتهم وهو يستصرخهم ويخاطب ضمائرهم فاهتز وجدانهم لذلك واعترتهم موجة من السخط والغليان لا تلبث إلا قليلا حتى تتفجر ثورات وبراكين لتضيف مسممارا إلى نعش المشروع الأموي . ثم ينتقل موكب السبايا إلى الشام حيث يوجد الخليفة يزيد بن معاوية الذي يريد أن يستشعر بنشوة النصر فأقاموا له عيدا وفرحا كبيرا، لقد انتصر "خليفة رسول الله!!!" ولكن على من؟! إنهم لا يعرفون حقيقة هؤلاء الأسرى والسبايا، فانبرى الإمام السجاد ليكشف لهم الحقيقة: "أيها الناس، أنا ابن مكة ومنى، أنا ابن زمزم والصفا، أنا ابن من حمل الركن بأطراف الردا، أنا ابن من صلى بملائكة السما، أنا ابن من أوحى إليه الجليل ما أوحى، أنا ابن فاطمة الزهراء، أنا ابن خديجة الكبرى، أنا ابن المرمّل بالدما، أنا ابن ذبيح كربلاء..." وانقلب العيد إلى دهشة غمرت الوجوه، وتحولت الفرحة إلى تساؤلات ترتسم في الأذهان، وانفلت زمام الأمر من يد يزيد، فقد فضحت هذه الكلمات الحكم الأموي وساهمت في تعريته أمام أهل الشام. فتحت ثورة الحسين وحركة الإمام السجاد في الكوفة والشام، الباب على مصراعيه أمام ثورات لاحقة كانت تنفجر من حين لآخر، وتختلف فيما بينها، إلا أنها تجتمع على أمر واحد وهو مقارعة المشروع الأموي فقد كسر الإمام الحسين الحاجز، وساهم الإمام السجاد في إثارة الرأي العام، فكانت ثورة المدينة بقيادة عبد الله بن حنظلة الأنصاري الذي طرد آل أمية من المدينة. ثم جاءت ثورة مكة بقيادة عبد الله بن الزبير التي لم تنتهِ إلاّ بعد محاصرة مكة ورميها بالمنجنيق، ثم انفجرت ثورة التوابين بقيادة سليمان بن صرد الخزاعي تحت شعار "وجوب التكفير عن ذنبهم لعدم نصرتهم الحسين"، وأخيرا جاءت ثورة المختار الثقفي الذي تتبع قتلة الحسين فقتل منهم مائتين وثمانين رجلا منهم عبيد الله بن زياد وعمر بن سعد والشمر بن ذي الجوش ن. ووسط كل ذلك وقف الإمام زين العابدين كمحرك رئيس لتلك التفاعلات المهمة في تاريخ الأمة الاسلامية، حيث استخدم الدعاء كوسيلة تربوية إصلاحية وأثار في أدعيته كل القضايا التي تهم الإنسان والمجتمع، وقد جمعت تلك الأدعية في كتاب عرف فيما بعد بالصحيفة السجادية، كما كان يعقد الحلقات الدينية والفكرية في مسجد الرسول (ص) حتى أصبحت مجالسه محجة للعلماء والفقهاء وتخرج من هذه المدرسة قيادات علمية وفكرية حملت العلم والمعرفة والإرشاد إلى كافة البلاد الإسلامية، ولم يترك الإمام زين العابدين بحكم كونه إماماً الجانب الإنساني والاجتماعي حيث نجد في الروايات أنه كان يخرج في الليالي الظلماء يحمل الجراب على ظهره، فيقرع الأبواب ويناول أهلها من دون أن يُعرف، كما كان يشتري في كل عام مئات العبيد ليحررهم في الفطر والأضحى بعد أن يربيهم التربية الاسلامية المباركة . حج هشام بن عبد الملك فحاول أن يلمس الحجر الأسود فلم يستطع من شدة الازدحام فوقف جانبا، وإذا بالامام مقبلا يريد لمس الحجر فانفرج له الناس ووقفوا جانبا تعظيما له حتى لمس الحجر وقبله ومضى فعاد الناس الى ما كانوا عليه، فانزعج هشام وقال: من هذا؟ وصادف أن كان الفرزدق الشاعر واقفاً فأجابه هذا علي بن الحسين بن علي ثم أنشد فيه قصيدته المشهورة التي يقول فيها: هذا الذي تعرف البطحاء وطأته والبيت يعرفه والحل والحرم هذا ابن خير عباد الله كلهم هذا التقي النقي الطاهر العلم فغضب هشام لسماع هذه القصيدة وقال للفرزدق: ألا قلت فينا مثلها؟ فقال الفرزدق: هات جدا كجده وأبا كأبيه وأماً كأمه حتى أقول فيك مثلها؟ فأمر هشام بحبسه في منطقة بين مكةوالمدينة، فحُبس ولكنه لم يأبه بذلك، فلما بلغ خبره علي بن الحسين، بعث إليه باثني عشر الف درهم وقال: اعذرنا يا أبا فراس فلو كان عندنا أكثر من هذا لوصلناك به، فردها الفرزدق وقال: يا ابن رسول الله ما قلت فيك الذي قلت إلاَّ غضبا لله ورسوله وما كنت أريد أن أرزق عليه شيئا، فردها الامام ثانية إليه وقال: بحقي عليك، تقبَّلها فقد رأى الله مكانك وعلم نيّتك، عند ذلك قبلها الفرزدق.