ودعنا منذ أيام كبير شيوخ الأغنية البدوية الصحراوية الفنان خليفي أحمد، وصار بإمكاننا أن نقول "ياي.. ياي" حسرة وأسفا على مستقبل الأغنية البدوية، وربما حالها من قبل ذلك موجع ولكننا لم نهتم، كعادتنا عندما يتعلق الأمر بأصالتنا وهوية تراثنا الضارب في عمق مجتمعنا. الأغنية البدوية إذن هذا الأسبوع ملفاً للفجر الثقافي، نحاول من خلاله أن نقترب من واقعها، مواجعها، ومن مخاطر اندثارها.. لأننا بصراحة في غفلة عنها منذ زمن بعيد. ومنذ زمن بعيد أيضا نشأت الأغنية البدوية في القرى والأرياف بحيث لم تكن المدينة آنذاك موجودة بالشكل الكبير، وإنما بعض المناطق الحضرية لا غير، وهي حسب التعاريف الأكاديمية: "فن فولكلوري متميز من حيث الأداء واللحن واللباس التقليدي والآلات الموسيقية المستعملة". اللغا وحرية النداء في الأغنية البدوية الجزائرية تاريخيا يقال أن هذا اللون من الطرب الجماهيري البدوي اقترن بتاريخ ظهور الأزجال والموشحات، وتحدد الفترة الزمنية بالقرن الرابع الهجري بعد زحف الهلاليين على المغرب العربي، إلا أنه يجب أن نفرق بين الشعر البدوي والشعر الحضري مادام الشعر قبل أي شيء هو العمود الفقري للأغنية البدوية، هناك بعض القصائد مشتركة بين البدوي والشعبي مثلا.. لذا نريد نركز كامل اهتمامنا على الأغنية البدوية الخالصة. حضور الأغنية البدوية كان وطنيا، فنجد الأغنية البدوية الوهرانية (الغرب) تجمع تحت لوائها مجموعة كبيرة من الشعراء والمطربين أمثال حمادة وولد الزين، وعبد القادر الخالدي، وبن قنون ومصطفى بن ابراهيم، ولخضر بن خلوف، وولد منور المستغانمي والمدني، وعبد المولى العباسي... بالإضافة إلى قيوس الجيلالي، وجيلالي عين تادلس، والحاج بن صبان، وقعيش السنوسي والعربي قدور. أما الأغنية البدوية الشاوية فيمثلها شيوخ أمثال: عيسى الجرموني وعلي الخنشلي، والبار عمر والشيخة بڤار حدة، إلى الأغنية البدوية العاصمية والتي تحتضنها منطقة بومرداس وعلى رأسها الشيخ محمد البومرداسي، أما التل الجزائري فلا اختلاف بينه وبين الأغنية البدوية الصحراوية حيث يذكر هنا خليفي أحمد، بن ڤيطون وبن كريو، وكذا محمد عبابسة، والشاعر الشعبي محمد بلخير، وبن علال، وغيرهم من شعراء ومؤديين لهذا اللون. في منطقة القبائل نجد سي محند أو محند يكتب الشعر البدوي باللهجة الأمازيغية، وقد تغنت به أصوات قبائلية كثيرة. يسمى الشعر الذي تبنى عليه الأغنية البدوية، "اللغا العروبي" وهو مصطلح قريب من اللغة، وقد يعني اللغو ومعناه الكلام الزائد إلا أنه بالقصد العامي الجزائري هو النداء أو المناداة على غرار هذا البيت: ألغاي يا لشيرة غير اهلك وما كان براويا بمعنى نادي أيتها الفتاة على أهلك وعلى تنادي على الغريب، ويقصد به النظم أو القصيد الخاص للغناء الشعبي والمجسد عبر ثلاثة أشكال، وهي القصيد والرباعيات وما بينهما بحيث يحدد عدد الأبيات والقوافي طريقة الغناء. الأغنية البدوية.. حمادة والطحطاحة الطابع البدوي الوهراني من أكثر الطبوع البدوية تواجداً واستمرارية، بدأ في الطحطاحة وهي ساحة كبيرة في وهران يسكنها الوافدون، فكانت بمثابة مكان لالتقاء شيوخ اللون البدوي والغناء في المقاهي الشعبية، والأغنية البدوية تضم 11 طابعا من أصل 14 طابعا، والمؤدي هو الذي يختار الطابع الذي سيميزه، إلا أن الشيخنة هي معرفة كل الطبوع والتحكم فيها، حتى يتمكن من تلبية جميع الأذواق، ومن أهم تلك الطبوع الطابع العامري وطابع الطالع، والبصايلي الذي يؤدى بإيقاعين، خفيف وسريع، يختلف فيه اللحن من الهدة إلى الفراش، أما الطابع البلدي فهو ثقيل نوعا ما ويشبه الإيقاع الحضري الأندلسي قليلا، كذلك الطابع المازوني والطابع القبلي الذي لا يرافقه الڤلال، أيضا الطابع المخزني وطابع شيخ السماء والهداوي. من دون إهمال طابع النقايدي الذي يشبه المواوييل. وكذا طابع الياي ياي وهو المنوال الذي يتغنى به غالبية الشيوخ الصحراويين، أما الطابع الشاوي فخصوصيته البندير والڤصبة الطويلة. الڤصبة والڤلال.. والراقصة الضائعة الشعر ثم المؤدي ثم وسائل الإيقاع وإلا لا يمكننا الحديث عن الأغنية البدوية، ويمكن رصد وسائل الإيقاع في الڤلال والبندير، والڤصبة أو الشبابة، فالڤلال الذي يسمى أيضا القلوز هو آلة إيقاعية قديمة جدا، وهي الأصل لما يعرف حاليا بالدربوكة، وهناك علاقة بين الشيخ المؤدي والڤلال، بحيث يشترط على كل تلميذ لدى شيوخ الأغنية البدوية أن يتعلم الضرب على القلالق لأن حسن استعماله يؤهله أن يكون شيخا، والشيخ الحقيقي هو الذي يضرب على الڤلال. ويكون برفقته ڤصاب أو أكثر وكذا براح وراقصة.. هذا في العرف الأول، ولكن تغيرت الأمور، وتصنع آلة القلاقل من ساق نبات الصبار بعد تجويفها وإفراغها يوضع فوقها جلد الماعز الرقيق، ويثبت بطرق تقليدية، أما الڤصبة الأكثر شعبية فتسمى كذلك الشبابة، وهي آلة نفخية تصنع من القصب الحر، وتثقب حتى يتمكن للعازف من تحريك أصابعه، الڤصبة ثلاثة أنواع: الخماسية: وهي خاصة بالطابع الصحراوي السداسية: وهي خاصة بالوسط والغرب السباعية: وهي خاصة بالغناء البدوي لمنطقة الشرق بطبوعه الثلاثة الركروكي والنايلي والسماتي. ولعل اختلاف الآلات لا يعني اختلاف جوهر الأغنية البدوية، فهي أغنية تلقائية تختار مواضيعها من عمق الشعب، فهناك الغزل والمدح وأغاني الفرح مثل أغاني الحصاد والأعراس، كما يمكننا ملاحظة إنصاف الأغنية البدوية للمرأة الجزائرية، فمنذ القديم تواجدت المرأة في هذا النوع، وقدمت فيه أفضل ما قدم، لأنها بالفعل أغنية بدوية تعكس الحالة الطاهرة الأولى للمجتمع الجزائري. عبد الرزاق جبايلي: الإعلام شارك في اندثاره.. رغم أنه الأصل والأصالة "من الصعب جدا الحديث عن الأغنية البدوية ومستقبلها وسط هذه الظروف، آخرها ضياع قامة من قامات النخل الصحراوي الكبير خليفي أحمد، لذا يمكننا أن نقول أن الأغنية البدوية حوصرت ونسيت وغابت عنها العيون.. في سنوات الستينات كانت هناك فرقة بدوية داخل الإذاعة الوطنية، وكانت تقدم في كل مرة أغاني بدوية تراثية خاصة فيما يخص التسجيلات التي تعتبر التاريخ والذاكرة الوطنية، ولكن مع الوقت خرج أغلب أعضائها على غرار الڤصاب قدور ساعد.. وهكذا ضاعت الفرقة سواء بتقاعد بعض أعضائها أو بخروجهم منها، وبالتالي لم تبحث الإذاعة في الأمر ولم تحاول تكوين فرقة بدوية أخرى أو اكتشاف مواهب أخرى في نوع الغناء البدوي وإنما ضاعت الفرقة للأبد. وبالتالي من أحد أسباب تلاشي هذا النوع هو عدم وقوف السلطات إلى جانب الأغنية البدوية، فلم تشجع المؤدين أمثال خدير منصور وحسان براهيم، فكان الصمت والنسيان نصيبهم. وبحكم تجربتي في الإذاعة الوطنية، قدمت برنامج ديوان البادية، حاولت من خلاله جمع هذا التراث أو على الأقل توثيقه من خلال الأرشيف، غير أن البرنامج لم يدم سوى موسم واحد، بسبب عدم وضوح الرؤية لدى المشرفين والقائمين، لذا الآن من واجبي أن أقول أن الإعلام كذلك ساهم في ضياع هذا اللون، على حساب بقية الطبوع الوطنية، لابد أن نهتم به لأنه الأصل والأصالة، بالنسبة لي وأنا الآن في حالة تقاعد أحاول أن أقدم ما أستطيع وأنا منهمك في تحضير برنامج مسلسل بعنوان رحلات إلى البادية لاكتشاف المواهب في الثقافات الشعبية، وأتمنى أن يقبل وأن تلتفت السلطات المعنية بهذا الجانب لأنه كما قلت سابقا الأصل والأصالة. قيس راهم: حياة القصيدة الشعبية بين أيدي الأغنية البدوية بالفعل أساس الأغنية البدوية هو الشعر الشعبي، وربما لولا الأغنية البدوية لما وصلتنا أشعار الخالدي وبلخير، لذا يمكننا اعتبارها السبب الحقيقي لبقاء الشعر الشعبي على فيد الحياة.. الآن لا أعرف كيف أفكك الأمر.. ولكنني أعتقد أن المطرب يحبذ التراث، وغير مستعد للمغامرة مع شاعر جديد، بالنسبة له إعادة قصيدة تراثية مضمونة النتائج، والناس ستفضلها، ولكن هذا خطأ على المؤدي أن يتطلع إلى الشعر الشعبي الجديد ويحاول أن يختار منها ما يساعد صوته وإمكانياته ويقدمها للمجتمع مرة أخرى، لأن الشعر تتطور عن أشعار القرن الماضي، والمواضيع التي يثيرها الشعر الشعبي الآن مختلفة تماما وبإمكانها أن تمس المجتمع.. وعليه أعتقد أن الشاعر لا ذنب له، فهو يقدم قصيدته بحياة واحدة.. لأن الحياة الثانية وربما الأبدية ستقدمها له الأغنية البدوية إذا هي حملت القصيدة وحلقت بها برفقة الڤصبة والڤلال. محمد لعراف: على الشباب أن يستمع إلى تراثه جيدا.. سيجد ذاته بداخله علينا بالفعل إعادة النظر في مستقبل الأغنية البدوية الجزائرية، علينا أولا جمع هذا التراث الممتد في كامل ربوع الوطن، فالصحراوي وحده مثلا واسع وهناك البوسعادي وأولاد جلال، والسوفي وما إلى ذلك، على الأقل كمرحلة أولى لابد من جمع التراث وتقديمه للتلفزيون.. كمحاولة أولى من طرفي قمت منذ أيام فقط بتصوير مجموعة من الأغاني البدوية في مدينة بوسعادة تحضيرا لاحتفالات الخمسينية، برفقة المخرج التلفزيوني عبد الحميد طيطاش، وهذا ما يعني خوفي على التراث، خاصة أن الأغاني المقدمة غالبيتها من التراث الصحراوي إلى جانب أغاني أخرى من كلمات بشير مفتاح. والحقيقة أننا نجد عدم الاهتمام من الطرفين، أولا من السلطات والقائمين على الحفاظ على التراث ونحن في شهر أفريل شهر التراث، وكذلك من الجمهور الذي تخلى نوعا ما عن هذا النوع الأصيل الذي يعكس هويته وذاكرته الحقيقية لحساب لحن أجنبي هجين لا معنى له، وعليه أنا أدعو من هذا المنبر كل الشباب الجزائري للعودة إلى التراث أو على الأقل لسماع تراث وطنه، هناك شيء سيشده لا محالة، هناك صدق ستفهمه من الغايطة من الڤصبة، فقط عليه أن يحاول.