في غمرة الحديث عن الاحتفالات القريبة بذكرى خمسينية استقلال الجزائر، تتبادر إلى الأذهان الكثير من الأسئلة الجدلية المتعلّقة بنتاج 50 سنة في عمر الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية، على جميع الأصعدة (الاجتماعية، السياسية، الاقتصادية، الثقافية.. وحتى النفسية). ولأن الأجوبة الحقيقية تكمن في التفاصيل البعيدة عن الواجهة، لفت انتباهي أمر قد يبدو سطحيا وعابرا، لكن مدلولاته تستفزّ الانتباه، وتوقظ السؤال التالي: هل حظي لساننا الجزائري بالاستقلال التام ؟ انتظر؛ لا داعي للنفور من علكة هذا الطرح.. أنا لا أقصد من خلال سؤالي الإشارة إلى اللغة الفرنسية المعجونة في لغتنا الأمازيعية أو لهجاتنا المحلية منذ عقود، ولست في مقام الحديث عن ذلك الهجين اللغوي الممسوخ المفروض على ألسنتنا منذ الولادة.. وإنما قصدت بسؤالي بعض العبارات التي تحمل غير ما تضمر. عبارات مستقلّة في ظاهرها مستعمرة في مفهومها لا تزال تستعمر لساننا الجزائري. وفي المثال التالي إضاءة: يردّد جلّ مقدمي البرامج الإذاعية والتلفزيونية العمومية و”الخاصة” في الجزائر، عبارة ”الحصة”، فيقولون (أقدّم لكم هذه الحصة) أو (إلى اللقاء في الحصة القادمة) أو (للاتصال بالحصّة..) إلى غير ذلك من الجمل الدائرة في فلك كلمة ”حصّة”.. وإذا عدنا إلى منبت دلالة هذه الكلمة ستعرفون أنّه حتى لساننا الجزائري الفصيح لايزال مستعمرا. في خمسينيات القرن الماضي، كانت الإدارة الاستعمارية الفرنسية تدير مؤسساتها الإعلامية الإذاعية والتلفزيونية في الجزائر، بمنطق الخالد على هذه الأرض، ولذرّ الرماد على العيون قامت بتوظيف بعض الجزائريين في تلك المؤسسات، مانحة إياهم فُتات الوقت في شبكاتها البرامجية، وسميّت تلك المساحة الهزيلة المخصصة ل”الأهالي” ب”la tranche”، أي ”الحصّة”، فكان الجزائريون يجتهدون للاستفادة من صدقة ”الحصّة” التي يمنحها لهم المستعمر في مؤسساته الإعلامية، وكان المذيع الجزائري يبدأ برنامجه بالترحيب بالمستمع الجزائري في ”حصّته المستقلة” من شبكة المستعمر البرامجية.. في أكتوبر 1962 استقلت مؤسسة الإذاعة والتلفزيون في الجزائر، واستقلت معها الشبكة البرامجية التي صار يعدها ويقدمها جزائريون وفقط. امتلكوا كلّ حصص الوقت، استقل وقتهم أيضا؛ فأبدعوا وكونوا أجيالا أخرى من المذيعين ومقدمي البرامج التي استقل توقيتها 24 ساعة على 24 ساعة، لكنّ ألسنتهم لم تحظ بالاستقلال الكامل؛ رغم مرور نصف قرن على الاستقلال من استعمار ”لا ترانش” لها، ولا تزال تصر على تقديم حصّتها الاستعمارية. ألم اقل لكم إنّه حتى لساننا الجزائري الفصيح لا يزال مستعمرا.. .. إلى اللقاء في الحصّة القادمة.