نقلت إلينا أخيرا (*) الصحافة - مشكورة - أصداء ملتقى عقد بسيدي عقبة ( بسكرة ) تحت إشراف وزارة الشؤون الدينية بعنوان " الأمن الفكري ".. لم تكن هذه الأصداء كافية لتكوين فكرة واضحة عن الملتقى، لكن عنوانه لا يخلو من إثارة لما يتضمن من إشارات وإيحاءات، " فالأمن الفكري " يحيلنا مباشرة إلى " المناعة الفكرية " ، ويصفعنا - بقوة - ببعض الأسئلة المحرجة مثل " هل ما تزال هذه المناعة بعد نحو خمسة عقود من الاستقلال مثلما كانت ابان الاحتلال الفرنسي؟ !" طبعا لو لم يكن هناك شك ما على هذا الصعيد، ما كان لموضوع " الأمن الفكري " أن يطرح أصلا . كان الشعب الجزائري إبان الاحتلال يتحلى بمناعة فكرية، تصنعها الذاكرة الجماعية التي خزنت ما شاء الله من ويلات الغزو الفرنسي لبلادنا ومناكره! كما يصنعها الوجود الاستعماري نفسه، باعتباره تهديدا يوميا للإنسان الجزائري: تهديدا في شخصه ووطنه ودينه ولغته وتاريخه.. لذلك كانت نخبة قليلة كافية لتغذية تلك المناعة، تارة بقبس من نور العلم يشع من هذا المسجد -المتواضع- أو ذاك، وتارة بانتفاضة سخية -بتضحياتها ودمائها- يقودها شيخ ثائر من هذه البقعة أو تلك من بقاع الوطن. وبفضل هذه المناعة الطبيعية لم تحصد استثمارات الاحتلال في حقول التنصير والفرنسية والادماج كبير شيء، رغم الإغراءات القوية المرافقة لها، وما لبث المجتمع برمته أن فرض منطقه الخاص على المتجنسين المارقين، بعزلهم وتهميشهم لاتقاء شر وارد منهم. وينبغي التذكير في هذا الصدد، بأنه إذا كانت جمعية العلماء قد حكمت بالردة على المتجنسين، فإن جماعة فرحات عباس -المعتدلة- حكمت على المتفرنسين بالخيانة! فهذه صحيفة "الجمهورية الجزائرية" -لسان حزب البيان- تكتب عن بعض العناصر المتفرنسة -والمتنصرة أحيانا- أمثال سيد قارة وأيبعزيزن وشكال .. فتقول : " لقد أصبح هؤلاء عملاء استعمار مدنف بخيانتهم الجبانة، بعد أن أصبحوا يتصرفون بالمعنى الضار والإجرامي لهذه الكلمة " ( عدد 29 / 5 / 1953 ). وفي مناسبة أخرى كتبت : " إن هذا الجزء المتعفن من الانتجلنسيا، عوّض الأميين من أبناء الخيام الكبرى، في التذلل عند أقدام الإدارة الاستعمارية " ( عدد 7 / 4 / 1954 ). أما الطلبة الوطنيون فقد نظروا إلى هذه الفئة -المتجنسة قانونا وفكرا- من خلال منبر "الطالب المغاربي" من زاوية سياسة الاندماج الهادفة إلى "إنتاج نخبة ممسوخة الشخصية، معلقة بين مجتمعين، لتصبح أداة قمع لشعبها" (عدد أبريل 1952). وقد تعززت تلك المناعة الفكرية إبان ثورة التحرير بوعي وطني ناضح، لتصبح درعا واقيا من مختلف الأساليب الدعائية المدنية والعسكرية منها؛ ناهيك أن ترسانة الإعلام الفرنسي لم تجد فتيلا في التصدي لمنشورات جبهة التحرير الوطني، وبثها الإذاعي المتواضع، من حيث الساعات القليلة للبث، وغير المسموع جيدا بحكم عمليات التشويش عليه ! ترى هل ضعفت هذه " المناعة الفكرية " المكتسبة والموروثة عن الحقبة الاستعمارية حتى أصبحنا نتحدث عن " الأمن الفكري " ؟ الجزائر الآن دولة مستقلة - منذ 48 سنة - وبها ما شاء الله من المساجد - الضخمة - وشبكة واسعة من الجمعيات السياسية وغير السياسية، فضلا عن ترسانة من مختلف وسائل الإعلام ودور الثقافة .. ومع كل ذلك لم نعد نشعر ب " الأمن الفكري " ، كما يوحي بذلك ملتقى سيدي عقبة ! فما دهانا يا ترى؟ هل انقلبت الآية فأصبحت فئة قليلة من "المتجنسين فكريا" ومن طلائع حركة التنصير تخيف نظاما قائما بمنظوماته الدينية والثقافة والإعلامية، في تقديري -المتواضع- لو أننا وضعنا إماما حقيقيا -مستقلا- في كل مسجد لكفانا شر هؤلاء وأولئك! ولنامت الأمة مطمئنة على دينها وثقافتها ! ولما كان وزيرنا المحترم بحاجة إلى رعاية ملتقى " الأمن الفكري "! ويمكن القول إن الأمن الفكري في السياق الجزائري يستوجب بداية توافر شرطين على الأقل : - أولا : أن تحقق النخبة الحاكمة " الأمن المعيشي " الذي تلخصه الآية الكريمة " أطعمهم من جوع وآمنم من خوف " ويعتبر هذا الجانب الحيوي من أسس مشروعية أية نخبة حاكمة في العالم . - ثانيا : أن تكون النخبة الحاكمة على قدر من الانسجام، مع الذاكرة الجماعية للشعب والوعي الوطني الشائع في أوساطه . وقد أشار ملتقى سيدي عقبة إلى هذا الجانب من خلال تعريف " الزمن الفكري " على أنه " الانسجام القائم بين ما يؤمن به المجتمع ويتطلع إليه، وبين ما يعيشه في حياته اليومية ". فهل أن هذا الانسجام وتلك الشروط الأولية متوفرة بين عامة الشعب والنخبة الحاكمة؟ ! تلك هي المسألة التي كان على الملتقى المذكور أن يحاول الإجابة عنها ! ( * ) صحافة 25 مايو 2010