لم أنج من "التهم الجاهزة" لمخابرات بومدين! بن بلة غداة الاستقلال: "خيضر لا يريدك معنا!" تحفظت على اعتماد "القوى الاشتراكية" في ظل الحزب الواحد! سجلنا هذا الحديث الهام مع المناضل الكبير أحمد مهساس، قبل سنوات في شقته المتواضعة في شارع مراد ديدوش، وقد أرتأينا نشره بمناسبة الذكرى الخمسين لاستعادة سيادة الجزائر واستقلالها. في الحلقة الثالثة والأخيرة (*) يتناول مهساس محاولة اغتياله في روما، اثر خلاف مع القيادة الجديدة للوفد الخارجي، وخيبته المبكرة في تلمسان غداة الاستقلال، لأن خيضر -من "أقوياء" المرحلة الجديدة! - لم يغفر له انتقاءه في رسالته الشهيرة إلى شيحاني! كما تناول بعض أطوار صداقته -المضطربة- مع الرئيس بن بلة، وموقفه من "مشكلته مع الجيش" عشية انقلاب 19 يونيو 1965، ولماذا لم يتضامن مع الصديق المخلوع، ومصاعب التعايش مع بومدين ورفاقه في "مجموعة وجدة"، ومحاولة المشاركة في المعارضة التي لم تدم طويلا، ويكشف بالمناسبة أنه كان اتصل مع نظام بومدين، قبيل وفاته في 27 ديسمبر 1978، لترتيب عودته إلى الجزائر.. هذه العودة التي لم تتحقق في نهاية المطاف، إلا في بداية عهد الرئيس بن جديد بعد سنة تقريبا.
محاولة اغتيال في روما حضرت غداة الذكرى الأولى لاستقلال تونس (20 مارس 1957) مؤتمرا صحفيا، عقده الدكتور الأمين الدباغين المسؤول الجديد للوفد الخارجي (1)، إلى جانب العقيد عمار أوعمران نائبه للشؤون العسكرية. وبعد اللقاء تجنبت الوقوف معهما لأخذ صورة تذكارية، فغضب أوعمران لذلك. وما لبث أن أرسل إلي كاتبه ليستدرجني إلى مكان معين. في هذا المكان التحق بنا الرائد قاسي حماي الذي حول اللقاء إلى جلسة استنطاق تقريبا، فقد راح فورا يكيل لي التهم جزافا، مثل: - "إنني أشرف بتونس على تنظيم جواز". - "إنني على صلة باتحادية فرنسا".. أي إنني أناور ضد المسؤولين الجدد باختصار! تمكنت من التخلص من الرائد قاسي ومساعديه في نهاية المطاف. وأشعرت مسؤولي الولاية الأولى والقاعدة الشرقية بما حدث، فعبروا لي عن مساندتهم، واستعدادهم لوقف أوعمران ورجاله عند حدهم. هذا الموقف المساند مكنني من التوصل إلى حل وسط مع أوعمران: أن أشارك في مهام التسليح ما بين مصر وأوربا. غادرت تونس بعد فترة إلى إيطاليا، ثم إلى ألمانيا، وأخذت أشارك فعلا في شبكة تهريب الأسلحة.. وقد ساعدني في ذلك الدكتور محمد الصغير النقاش. لكن أوعمران ما لبث أن انقلب على اتفاقنا، وأرسل مناضلا سابقا -من العاصمة- لاغتيالي بروما (2) كما تعرضت لاحقا لمحاولة اغتيال، بأمر من اتحادية جبهة التحرير بفرنسا. وبلغني فيما بعد، أن عبان لما خرج إلى تونس في صائفة 1957 قال للمحامي المناضل عبد الرزاق شنقوف: "إنما أرسلت أوعمران لتصفية مهساس! لا للتفاهم معه!". بقي مهساس بألمانيا عقب ذلك، على هامش العمل الثوري، لا يشارك إلا بما يسمح له، بفضل أصدقائه -في ميدان التسليح- أمثال امحمد يوسفي ومعبد، إضافة إلى بعض أصدقاء الثورة من الألمان. وكان على صلة كذلك في بون بعبد الحفيظ كرمان، مسؤول مندوبية جبهة التحرير ثم الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية. 1) كان الدكتور الدباغين قد عين من قبل عبان أواخر 1955، لكن لم يتسلم مهامه إلا بعد اختطاف الوفد الخارجي لجبهة التحرير. 2) كلف أوعمران بذلك المناضل أرزقي باسطة الذي رفض تنفيذ الأمر في نهاية المطاف.
خيبة مبكرة... في تلمسان عاش مهساس حدث استقلال الجزائر في 5 يوليو 1962 بألمانيا، وكان في وضعية مؤلمة بعد تعرضه لحادث سيارة.. وعندما التحق بجماعة تلمسان، بقيادة بن بلة وبومدين، كان ما يزال يتوكأ على عصاه. ويصف الجو الذي وجده هناك بقوله: "وجدت الجو مغايرا تماما لما كنت أتوقع، فقد استقبلني بن بلة بنوع من الفتور، معتذرا بأن محمد خيضر لا يريدني ضمن المجموعة (القيادية)! واقترح علي أن يساعدني في السفر إلى العاصمة، لاستراحة هناك وكفى! هذا الموقف.. كان خيبة كبيرة، جعلتني أرد على بن بلة بحدة "لست بحاجة إلى أي شيء منكم!" وفضلت العودة إلى ألمانيا، للنقاهة والاستجمام فترة أخرى. بعد مدة زارني بعض الأصدقاء، وأشعروني بأن بن بلة في حرج من بقائي خارج الجزائر، وتجاوبا مع هذه الإشارة عدت فعلا، لكن دون أن أبادر بالاتصال به، وكنت يومئذ في وضعية سيئة، على الصعيدين المعنوي والمادي، وفي أواخر سبتمبر 1962 زارني بعض الأصدقاء المشتركين مثل الدكتور عبد الكريم الخطيب من المغرب وطلبوا مني أن أبادر بزيارة بن بلة، قمت فعلا بزيارته في فيلا جولي (قبالة قصر الشعب) وبعد أن شكل الحكومة حتى لا يظن أنني جئته رغبة في منصب ما، كنت مازلت أستعين بعصايا، في حالة إحباط حاد. كانت النتيجة أن اشتبكت مع بن بلة بحضور بومدين وزير الدفاع، بعد أن حملني ضمنيا مسؤولية الخلافات التي ظهرت على مستوى قيادة الوفد الخارجي لجبهة التحرير سنة 1955، في إشارة إلى رسالة شيحاني آنفة الذكر، واعترض خيضر بسببها على اشتراكي في قيادة البلاد غداة الاستقلال! كان ردي حادا على إيحاءات بن بلة فقد واجهته قائلا: "إذا كان هناك من تسبب فعلا في مشاكل على مستوى القيادة يومئذ فهو أنت!" وبهذه العبارة أنهيت اللقاء، وغادرت غاضبا.
صداقة... على وقع الخلافات تم تعييني بعد فترة من تشكيل حكومة بن بلة الأولى في تعاونية فلاحية، لأتقاضى مرتبا على الأقل، أخذ بعض الأصدقاء يسعون لصالحي لدى بن بلة، فكان جوابه: "إذا كان أهلا كما تقولون، فليبدأ من البداية!" وكانت البداية فعلا غداة تأسيسي الديوان الوطني للإصلاح الزراعي، بتعييني مديرا عاما له. كان الديوان فرصة لرسكلة عدد من قدماء المناضلين، وما لبث أن أصبح جهازا فاعلا في القطاع الفلاحي، وفي إطاره، تكونت كذلك علاقات عمل عادية بيني وبين الرئيس بن بلة. بقيت على رأس الديوان إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية في سبتمبر 1963، لأفاجأ ذات يوما بسماعي اسمي، ضمن الحكومة الجديدة وزيرا للفلاحة، دون استشارتي في ذلك مسبقا، وما لبث موقعي أن تعزز أكثر غداة مؤتمر الحزب في أبريل 1964 إثر تعيين عضو في المكتب السياسي، وهكذا توطدت من جديد علاقاتي بالرئيس بن بلة، ونحن نطوي الخطوات الأولى معا في بناء الجزائرالجديدة. طبعا لم نكن متفقين على طول الخط، فقد كانت لي تحفظات على بعض مواقف الرئيس وتصرفاته، بل كنا نختلف أحيانا حول قضايا جوهرية مثل تنظيم البلاد، وطرق التسيير، فضلا عن بعض القضايا الأيديولوجية، على هذا الصعيد مثلا، بدأنا نلمس نوعا من الازدواجية، بين خطاب رسمي عربي إسلامي، وممارسات تعبر عن قناعات ايديولوجية مغايرة.. كان بن بلة قد أحاط نفسه بمجموعة من التروتسكيين، لم أكن أتفق معهم تماما الاتفاق، كنا مبدئيا مع اختيار التسيير الذاتي، لكن كنت أتصوره في إطار قيم الشعب الجزائري العربية الإسلامية عكس تصور المجموعة.. وعندما أبرم بن بلة اتفاقا مع جبهة القوى الإشتراكية قبيل انقلاب 19يونيو 1965 لم أخف تحفظي من ناحيتين على الأقل: 1 عدم استشارة المكتب السياسي في موضوع دقيق وحساس 2 الاعتراف بجبهة القوى الاشتراكية كحزب، في ظل نظام الحزب الواحد!
بن بلة عشية الانقلاب: "هناك مشكلة في الجيش.." جاءني الرئيس بن بلة وقد بدأت نذر الانقلاب تلوح في الأفق، ليقول لي أن هناك مشكلة في الجيش، فكان جوابي ينبغي طرح الموضوع على المكتب السياسي، لأن الأمر يبدو أخطر من أن يعالج بطريقة شخصية مع مسؤولين أو ثلاثة، وإذا كانت درجة الخطورة أوسع من هذا الإطار، فليطرح الأمر على اللجنة المركزية، أو على مؤتمر استثنائي للحزب. كان ذلك في ربيع 1965، بعد أن شرع بن بلة في عزل عناصر "مجموعة وجدة" الواحدة تلو الآخر، من الطيبي العربي إلى بوتفليقة مرورا بمدغري وأحمد قايد وبلقاسم الشريف، في محاولة واضحة لمحاصرة بومدين تمهيدا لعزله كذلك. لم أكن أستسيغ في الواقع هذا الأسلوب، فما كان من بن بلة في تقديري أن يتخلص بهذه الطريقة المبتذلة، من عناصر ساهمت في وصوله إلى الحكم بنسبة 50٪ على الأقل، فبدل هذه المناورات السخيفة، كنت أفضل طرح المشاكل على الهياكل النظامية بكل وضوح وبصفتي من المقربين من بن بلة، كانت بعض العناصر من الجيش تزورني أيضا من حين لآخر، شاكية من تصرفات الرئيس وكأنها كانت تريدني أن أشهد عليه! أو تسعى لتحييدي بذكر بعض تصرفاته شخصيا!. وصراحة كنا جميعا أصدقاء وخصوما! نعاني من تصرفات بن بلة! حاولنا مرارا إصلاح ما يمكن إصلاحه، لكن بدون طائل، لم يكن بوسعنا أن نحصل منه على ضمانات بالكف عنها، ناهيك أنني شخصيا كنت قبيل الانقلاب في شبه معارضة داخل الحكومة ذاتها، غداة الانقلاب سألت نفسي: هل أواصل مع السادة الجدد؟ أم أنسحب بشرف؟ وبينما كنت أبحث عن الجواب طلبني بومدين، فلما ذهبت إليه بادرني قائلا: يا سي علي أنت نفسك شاهد على هذا الرجل! ولا داعي لتذكيرك بتصرفاته! نطلب منك أن تكون شاهد عدل، فتواصل مهمتك معنا مثلما كنت بالأمس، وسنحاول تصحيح التصرفات المنافية للثورة. وهنا واجهت نفسي بسؤال آخر: هل أتضامن مع الرئيس المخلوع رغم تحفظاتي الكثيرة على بعض تصرفاته وأساليب تسييره؟ كان التضامن في هذه الحالة يبدو صوريا، لذا رجعت إلى الاختيار الثاني: أن أواصل المشوار مرحليا، ريثما أتبين اتجاه الجماعة الجديدة، لا سيما إزاء انتقاداتنا المشتركة لبعض تصرفات الرئيس المخلوع، تم تعييني عضوا في مجلس الثورة واحتفظت بوزارة الفلاحة في حكومة بومدين الأولى، لكن بعد تمام السنة فضلت الانسحاب، تحت غطاء "مرض دبلوماسي". ومع ذلك شنت علي مخابرات بومدين حملة شرسة، بترويج اتهامات باطلة كتحويل الأموال، وما إلى ذلك من التهم الملفقة الجاهزة، وكنت قبل ذلك عارضت فكرة "الكتاب الأبيض" الذي أعلن بومدين عن إعداده غداة انقلابه، بهدف تسجيل أخطاء الرئيس بن بلة ومحاكمته على أساسها.