اختطاف طائرة الوفد الخارجي يحسم الصراع بين الداخل والخارج خلفيات الرسالة "الجريئة" إلى شيحاني سنة 1955 سجلنا هذا الحديث الهام مع المناضل الكبير أحمد (علي) مهساس قبل سنوات، بشقته - المتواضعة - في شارع مراد ديدوش، وقد ارتأينا نشره بمناسبة الذكرى الخمسين لاستعادة سيادة الجزائر واستقلالها. في الحلقة الثانية (*) يعرج بنا مهساس على أزمة قيادة حركة الانتصار، ودوره - بواسطة "نداء الحكمة" - في تفعيل الاتجاه المحايد، وتجاوز الخلاف "إيجابيا" بإعلان الثورة المسلحة، ويقف بنا غداة اندلاع الثورة عند محاورة أنصار مصالي تجنبا لتصادم جبهة التحرير و"الحركة الوطنية" وكيف أدى هذا المسعى إلى الحكم عليه بالإعدام، بعد أن شبه حركة مصالي بحركة "ميخالوفيتش" في يوغسلافيا خلال الحرب العالمية الثانية. ويكشف لنا مهساس بالمناسبة - لأول مرة - عن خلفيات رسالته إلى شيحاني في صائفة 1955، تلك الرسالة التي انتقد فيها بعض رفاقه في الوفد الخارجي، والتي حجزها جيش الاحتلال في معركة الجرف، وقام بتسريب بعض ماجاء فيها إلى صحافته.. كما يتناول خلفيات تأسيس "القاعدة الشرقية" في محاولة حل مشكلة تسليح الولايات الحدودية والوسطى خاصة. ويحدثنا أيضا عن موقف الوفد الخارجي لجبهة التحرير من مؤتمر الصومام ونتائجه، وتحفز الوفد لمنع عبان ورفاقه من تجاوز الخط الأحمر في علاقتهم بالخارج.. لكن حادث اختطاف طائرة الوفد في 22 أكتوبر 1956 حسم الخلاف عمليا - مؤقتا - لصالح جماعة الداخل. "انتقدت اجتهاد بوضياف في تقربه من المركزيين" في خريف 1953 ظهرت بوادر أزمة قيادة، بين زعيم حركة انتصار الحريات الديمقراطية الحاج مصالي، والأمانة العامة للحركة بقيادة بن يوسف بن خدة، وكان ذلك مثار نقاش وجدل طويل في قيادة اتحادية الحزب بفرنسا(1). حاولنا أول وهلة التوسط بين الفريقين، فحافظنا بذلك على علاقتنا بمصالي الذي لم يكن يرفض علانية المحاولات التي كنا نقوم بها مع أنصاره المقربين، لكن عندما أدركنا أن لا جدوى من ذلك، وأن الأمور تتجه نحو تكريس الانقسام في قمة هرم الحزب، واحتمال امتداد ذلك إلى قاعدته - بادرنا بإعداد منشور "نداء الحكمة"، لمخاطبة المناضلين مباشرة، مناشدتهم التزام الحياد والحفاظ على وحدة الصف، استعدادا لعمل إيجابي، يتجاوز الخلاف ويعيد المياه إلى مجاريها، وكنا شكلنا يومئذ نواة للتيار المحايد، من أعضائها عبد الرحمان ڤراص، وعلي خنشول (من ميلة)، فضلا عن الطلبة علي باسطا، محمد أمير، محمد زروقي، محمد العربي ماضي... صدر النداء بتوقيع بلقاسم راجف(2)، باعتباره عميدنا في النضال وأكثرنا شهرة، ويتمتع بسمعة طيبة، وقد حملنا فيه كلا من مصالي والأمانة العامة - ومن ورائها أغلبية اللجنة المركزية - مسؤولية ما يمكن أن يترتب على الخلاف من تناحر وشقاق. في مارس 1954 عاد بوضياف إلى الجزائر مزودا بهذا النداء، بهدف جمع بقايا المنظمة الخاصة، والتنسيق فيما بينهم كما سبقت الإشارة، لكن عندما اجتهد بتأسيس "اللجنة الثورية للوحدة والعمل" مع مسؤولي لجنة التنظيم في الحزب(3)، سارعت بإعلان تحفظي على ذلك، لما فيه - حسب رأيي - من خروج عن مبدإ الحياد، وإخلال بخطة العمل المتفق عليها، وعبرت عن ذلك بمراسلة عدد من المناضلين في العاصمة خاصة، منبها بأن تيارنا ينبغي أن يلتزم الحياد فعلا، بالابتعاد عن طرفي النزاع في القمة. غداة إعلان الثورة في فاتح نوفمبر 1954 شرعنا في تنظيم صفوفنا بفرنسا، في إطار التنظيم الذي سبق برفع لوائها، جبهة التحرير الوطني. كان أنصار مصالي (4) قد استولوا على مقرات الاتحادية ووسائلها، بعد طرد أنصار الأمانة العامة منها، ورغم ذلك حافظنا على باب الحوار مفتوحا معهم، حول مسألة الثورة التي اندلعت بالجزائر، وضرورة الالتفاف حولها من جهة، ومحاولة تجنب الصدام بين عناصر التنظيم الجديد و"الحركة الوطنية الجزائرية من جهة ثانية". وبقيت شخصيا في هذا الإطار على اتصال وثيق بعبد الله فيلالي، أحد ثقات مصالي قرابة ثلاثة أشهر، وفي آخر لقاء أكد لي أن المصاليين سيكونون جيشا متميزا، كما حدث في يوغسلافيا أثناء الحرب العالمية الثانية، فقلت له إن مصيركم سيكون شبيها بمصير "ميخالوفيتش" الذي أراد منافسة "تيتو"، فارتمى في أحضان الألمان، وبسبب مثل هذه المواقف حكم عليّ المصاليون بالإعدام، كما أبلغني بذلك أحدهم وهو مصطفى مروك. أخذت جبهة التحرير في الانتشار شيئا فشيئا عبر كامل التراب الفرنسي، وبدأت خاصة بالتصدي لمزاعم المصاليين الذين راحوا يروجون بأن "الزعيم" هو صاحب المبادرة بالثورة. ولتفنيد هذه المزاعم قمنا بعمل توضيحي واسع، حتى أننا كنا نرسل مناضلين إلى الجزائر للتأكد من حقيقة الثورة، ومن يقف وراءها بعين المكان. وفي منتصف مارس 1955، غداة أسر رابح بيطاط - قائد المنطقة الرابعة - رغبت في الدخول إلى الجزائر لخلافته، لكن أحمد بن بلة الذي بدأ ينشط لفائدة الثورة انطلاقا من القاهرة رأى من الأنسب أن ألتحق بتونس، لتولي مهمة الشؤون السياسية والعسكرية في آن واحد. "ملابسات انتقاد أعضاء من الوفد الخارجي في رسالتي إلى شيحاني" وصلت إلى تونس في أواخر مايو 1955، فوجدت الخلاف قائما بين "الداخل والخارج"، في شكل تنازع على توزيع الأسلحة أساسا. حاولنا معالجة الخلاف في البداية بتأسيس لجنة، تشرف على توزيع الأسلحة حسب حاجة الثورة آنذاك. وكان جيش الاحتلال يومئذ يركز على ضرب الثورة في الأوراس، ما جعلنا نعطي المنطقة نوعا من الأولوية - اضطرارا - لمواجهة ضغط العدو من جهة، ولوقوفها في طليعة الكفاح المسلح من جهة ثانية. وفي صائفة 1955 وجهت رسالة إلى البشير شيحاني - قائد الأوراس بالنيابة - ضمنتها انتقادات لأعضاء في الوفد الخارجي لجبهة التحرير، أمثال خيضر، وآيت أحمد ويزيد، ولهذه الرسالة ملابسات، فقد كان بعض طلبة القاهرة خاصة يعودون إلى الجزائر أثناء العطلة الصيفية فيسربون معلومات سلبية عن أعضاء في الوفد، تصل مسامع المسؤولين بالداخل مضخمة، في شكل تصرفات "غير ثورية". بلغ ذلك شيحاني فقرر إرسال مجموعة من الفدائيين لاستقصاء حقيقة الأمر، وتصفية من ثبت "انحرافه" عن خط الثورة! عملت بأمر هذه المجموعة في طرابلس، فأوقفتها هناك، بعد أن أقنعتها بخطإ مسعاها، وخطره على مصير الثورة ذاتها في نفس الوقت، مع تطمينها بأن الثورة بأيد أمينة في الخارج أيضا. طلبت مني المجموعة بالمقابل نوعا من التغطية، خوفا من الحساب والعقاب لرجوعها دون تنفيذ المهمة. في هذا السياق كتبت الرسالة، وأطلعت بن بلة عليها فأبدى موافقته. ومجاملة لشيحاني ضمنت الرسالة بعض الانتقادات لخيضر وآيت أحمد ويزيد... عثرت قوات الاحتلال على هذه الرسالة ضمن حقيبة ضاعت من شيحاني، أثناء معركة الجرف أواخر سبتمبر 1955، فتعمدت تسريب مقتطفات منها إلى الصحافة الفرنسية، فلما قرأها المعنيون (5) طلبوا من بن بلة أن أمثل أمام لجنة الانضباط، فلما طرح الأمر علي أجبت بكل عفوية: إذا أرادوا ذلك، فلندخل جميعا إلى الأوراس! للمثول أمام لجنة الانضباط الحقيقية! كان استشهاد مصطفى بن بولعيد - ليلة 23 فبراير 1956 - خسارة فادحة، لأننا كنا نعول عليه كثيرا في إعادة ترتيب الأمور محليا ووطنيا، والملاحظ في هذا الصدد، أن العدو كان خلال العام الأول والثاني من الثورة يتصيد الإطارات بالدرجة الأولى، ما أدى إلى سقوط العديد منهم. وتفطنا إلى ذلك، فشرعنا مبكرا في عملية التكوين، لتعويض خسائرنا في هذا المضمار الحيوي. للتذكير، فإن منطقة الأوراس في عهد بن بولعيد وشيحاني لم تكن حاملة راية الكفاح المسلح فحسب، بل كانت كذلك حاملة مشعل العروبة والإسلام. وكنا بتونس على نفس الخط. وأذكر في هذا الصدد، أن أصواتا قريبة من الحزب الدستوري كانت تروج لتأسيس مغرب عربي في فلك النفوذ الفرنسي، يعزل عن المشرق العربي الواقع تحت النفوذ الأمريكي البريطاني. وكانت هذه الأصوات تجد صداها بالرباط، ولو بدرجة أقل اندفاعا. وردا على هذا الاتجاه طرحنا تصورنا في صحيفة "المقاومة" بالقول: "نعم لمغرب عربي، لكن ليس مناوئا للمشرق العربي". مؤتمر الصومام "اعتبرنا نتائجه تجاوزا للخطوط الحمراء"! كانت جبهة التحرير الوطني قد أقامت بتونس نواة نظام سياسي - لتأطير الجالية الجزائرية - فضلا عن هيكل خاص بالإمداد والتسليح، غير أن حاجات التنسيق بين المناطق الحدودية والداخلية (1 و2 و3 خاصة) جعلتنا نعجل بتأسيس "القاعدة الشرقية" كإطار لاستقبال طلباتها، وجهاز لإمدادها بالسلاح في نفس الوقت. كنا بتونس أثناء ذلك نتلقى أصداء محاولة جارية داخل الجزائر، تستهدف الاستيلاء على قيادة الثورة، وما لبث أن انعقد مؤتمر الصومام (20 أوت 56) لتكريس هذا المسعى. كان المؤتمر مبدئيا محل إجماع واسع بين إطارات الثورة، لأن حركية الكفاح الشامل بلغت مرحلة من التطور، تستوجب عقد لقاء في القمة للتقييم ورسم طريق المرحلة القادمة. لكن طريقة تحضيره والنتائج التي أسفر عنها - توظيفا "لمبادئ" على غرار أولوية السياسي وأولوية الداخل - كانت مثار خلافات حادة، علما أن أطرافا هامة غابت عن المؤتمر: الولايتان الأولى والخامسة، القاعدة الشرقية، الوفد الخارجي واتحادية فرنسا. كانت نتيجة المؤتمر أن أقلية تمكنت من فرض رأيها وتمرير أطروحاتها.. فأولوية السياسي مثلا تحصيل حاصل، لأن المناضل الثوري يجمع بحكم مهمته بين الصفتين، لذلك كنا نحرص دائما على تجنب الثنائية النظرية المزيفة، بين "السياسي" من جهة والعكسري من جهة ثانية. وقد اتخذ هذا التمييز للأسف ذريعة، لتمكين بعض الساسة المحترفين - ممن تخلفوا عن الركب - من اللحاق بالثورة، واحتلال مواقع الريادة فيها، وأكثر من ذلك كانت ذريعة لتحييد عناصر بارزة من القيادة الأولى للثورة. وهكذا فتح الباب على مصراعيه أمام أناس لا يؤمنون بالثورة، ولم يكونوا مقتنعين بها، ليصحبوا على رأس هذه الثورة! صادف ذلك أننا كنا بتونس خاصة، نقوم، بحملة توضيح حول الثورة، أهدافها وأنصارها وخصومها، والمخاطر التي يمكن أن تعترضها، لذا عندما تسلمنا وثائق الصومام وقراراته طلبنا من عبان ورفاقه إرجاء الإعلان عن نتائجه، ريثما نتمعن في دراستها، ونراجع بعض ما جاء فيها، لتمكين الغائبين عن المؤتمر من إبداء آرائهم وملاحظاتهم، حتى يبدوا كأنهم شاركوا في قراراته.. لكن عبان سارع بالإعلان عنها، ودون أن يأخذ ملاحظاتنا بعين الاعتبار، ليضعنا بذلك أمام الأمر الواقع. لذا كانت أرضية الصومام وقراراته مثار خلاف إيديولوجي سياسي.. فقد كنا من جانبنا نحاول تمثيل الشعب الجزائري نحاول تمثيل الشعب الجزائري بأصالته وعروبته وإسلامه، حسب أطروحات الحركة الوطنية التي نشأنا في أحضانها من نجم شمال إفريقيا إلى حزب الشعب الجزائري وامتدادته. بينما جاءت التيارات الأخرى للثورة، تحمل معها أطروحات ومفاهيم جديدة مثل: اللائكية والنزعات الجهوية، ومعاداة المشرق العربي، وما إلى ذلك. طبعا كنت في طليعة المعارضين لما تم الاتفاق عليه في مؤتمر الصومام. وأعددنا العدة للرد على ما اعتبرناها أمرا واقعا، مصممين على عدم ترك الجماعة تتجاوز الخط الأحمر. لكن في خضم إعداد الرد المناسب، جاء حادث اختطاف طائرة الوفد الخارجي - في 22 أكتوبر 1956 - فكان بمثابة طعنة في الظهر. لقد وجدت نفسي وحيدا على رأس الطليعة المعارضة، مع عناصر من الأولى والخامسة والقاعدة الشرقية والعاصمة. كان أعضاء الوفد الخارجي معنا في نفس الخط، بمن فيهم حسين آيت أحمد، وحتى ميزان القوة العسكرية كان في صالحنا.. لكن الاعتبارات السياسية لم تكن تسمح بأي تحرك في هذا الاتجاه. غداة حادث الاختطاف عقدت مؤتمرا صحفيا بتونس، قلت فيه باختصار: "إن الثورة مستمرة، رغم اعتقال جزء من قادتها". هذا الموقف ما لبث أن جلب لي ما يشبه التوبيخ من عبان، لأنني تصرفت من خلاله - حسب رأيه - "كأنني القائد الأعلى للثورة"! في مطلع 1957 حل بتونس العقيد عمار أوعمران، مبعوثا من عبان لاستلام القيادة (6)، فاستقبلته وقدمته إلى السلطات التونسية وهياكل الثورة، هناك. وصاحبته كذلك إلى القاهرة، حيث قدمته إلى الجهات التي نتعامل معها. غير أن وجود رأسين للثورة بتونس ما لبث أن أوقع سلطات البلاد في حرج. ولرفع هذا الحرج تدخل الرئيس بورقيبة شخصيا، ليفهمني بأن بلاده مضطرة إلى التعامل مع ممثل الثورة في الداخل، علما أنني كنت كذلك ممثلا للثورة لدى الحكومة التونسية، وكان المحامي أحمد بومنجل - القيادي في حزب البيان سابقا - قد نقل إلي رسالة من بن بلة - سجين لا صنتي مع رفاقه - حرص على الاستظهار بها بحضور السلطات التونسية، يطلب مني فيها التعامل مع المسؤولين الجدد للثورة بالخارج.. هذه الرسالة (7) أضعفت موقفي إلى حد كبير... (يتبع) (*) طالع الحلقة الأولى في "الفجر"، عدد 20 يونيو الجاري. (1) من قادتها يومئذ موسى بوالكروة، الطيب بولحروف وزين العابدين مومجي. (2) طالع رواية راجف في كتابنا "رواد الوطنية (دحلب 1992 وهومة 2003). (3) يعني البشير دخلي ورمضان بوشبوبة. (4) أسسوا في ديسمبر 54 "الحركة الوطنية الجزائرية". (5) هم خيضر، آيت أحمد، يزيد... (6) آلت قيادة الوفد بعد اختطاف طائرة بن بلة ورفاقه إلى الدكتور الأمين وعين أوعمران نائبه مكلفا بالشؤون العسكرية. (7) اتهم بن بلة بومنجل لاحقا بالعمل لصالح عبان.