عندما انطلقت ثورة التحرير المظفرة التف حولها الشعب بكل فئاته وشرائحه وكان الشعب “البطل الوحيد” في ثورة هزت العالم، وساهمت الطبقات البسيطة من الشعب الجزائري رغم الظروف الصعبة في دعم الثورة، وكانت فئة العمال البسطاء والتجار والحرفيين في طليعة المهن التي ساندت ودعمت الثورة، بحكم أن أصحاب الدكاكين والورشات البسيطة التي كانت منتشرة في الأحياء الشعبية والدروب. كانوا الأقرب ليمثلوا همزة وصل بين القادة الكبار والثوار في الجبال وبين مختلف أجهزة الثورة ومؤسساتها، إذ تفطنت الثورة مبكرة إلى الدور الكبير لأصحاب المهن الصغيرة مثل التجار والحرفيين، نظرا لأن هذه الفئة تملك تاريخ نضالي وتنظيمي يمتد إلى عهد نجم شمال إفريقيا وحزب الشعب وحركة انتصار الحريات الديمقراطية، عبر تأسيس نقابات كان ظاهرها الدفاع عن حقوق هذه الفئات وباطنها تنظيم النشاط الثوري، حيث تجمع بائعي الخضر والفواكه والخبازين و أصحاب المطاعم والفنادق والمقاهي وحتى سائقي الأجرة في تجمعات مهنية لتسهيل العمل الثوري و تنظمه. وبحكم التنظيم المحكم الذي كانت هذه الفئات تخضع له فإن العديد من الأسماء المنتمية إلى هذه المهن كانت سباقة في الالتحاق بالثورة وصارت فيما بعد أسماء قيادية في أجهزة الثورة، أمثال مصطفى بن بولعيد، العربي بن مهيدي، ديدوش مراد، زيغوت يوسف، مختار باجي، عميروش آيت حمودة وأسماء أخرى كثيرة قدمت الدعم الكبير للثورة . ولأن استمرار الثورة يحتاج إلى تنظيم، فإن جبهة التحرير الوطني يومها عمدت إلى تأسيس تنظيمات مهنية بداية من الخمسينيات لضمان الدعم وحماية الأشخاص وكذا الاستمرار في تجنيد مختلف فئات الشعب الجزائري للانخراط في الكفاح الوطني، فتم تأسيس الاتحاد العام للطلبة الجزائريين في جويلية 1955 والاتحاد العام للعمال الجزائريين والاتحاد العام للتجار، وغيرها من التنظيمات التي شكلت قاعدة نضالية صلبة للجبهة واحتضنت العديد من القيادات الشابة التي ساهمت في ضمان استمرار الثورة وصمودها رغم ضربات الاستعمار ضدها، وهذا عن طريق تنظيم التبرعات التي كانت تجمع للثورة وكذا المؤن وتصعيد الضربات الفدائية ضد الاستعمار. كما كانت الإطار الذي استقطب العديد من الأسماء الدولية والأجنبية التي زارت الجزائر وتعرفت عن قرب على حقيقة النضال الجزائري أمثال الباركامو وفرانسوا مورياك، وستيت وغيرهم، حيث عقد الاتحاد العام للتجار الجزائريين أول مؤتمر له إبان ثورة التحرير في 13و 14 سبتمبر من عام 1956 بنادي الترقي ساحة الشهداء، وهذا بحضور 800 مندوب، وخرج المؤتمر بتعيين عباس تريكي كأول رئيس للاتحاد الذي أرسل أول وفد له إلى باريس و تونس وطرابلس للتعريف بالقضية الجزائرية وحشد الدعم الدولي لها. ولم تتوقف مساهمة التجار الجزائريين عند هذا الحد في دعم الثورة بل امتدت إلى حشد كل طاقاته الحية في دعم الثورة عبر جمع التبرعات والالتفاف الفكري حول الممثل الوحيد لنضال الشعب الجزائري يومها حزب جبهة التحرير الوطني، وهذا عن طريق إصدار مجلة” الاقتصاد الجزائري” تحت إدارة سعيد وزقان، فيما أسندت رئاسة التحرير إلى أكلي ويلول. كان لاتحاد التجار الدور البارز أثناء إضراب نوفمبر 1956 الذي دعت إليه الجبهة عام بعد تأسيس الاتحاد دليل كبير على النجاح التنظيمي لهذه المنظمة المهنية ومدى تغلغلها في الأوساط الشعبية، إذ نظمت بعد مساهمتها في تلبية نداء إضراب جبهة التحرير إضرابا آخر دام 48 ساعة، وهذا تنديدا بالممارسات التعسفية للسلطات الاستعمارية ضد التجار والحرفيين الجزائريين. وكان من نتائج تنظيم المهن والحرف الجزائرية في اتحادات مهنية تحت لواء القيادة الثورية إدخال أساليب جديدة في النضال من شأنها أن تلفت أنظار الرأي العام الدولي للقضية الجزائرية، وهي الإضرابات والاحتجاجات المهنية التي صار المهنيون والحرفيون الجزائريون ينظمونها تنديدا بأوضاعهم أو دعما للثورة، إضافة إلى تنظيم حملات جمع التبرعات لتمويل الثورة، حيث عرفت كل من تلمسانبجايةقسنطينة ووهران والقصبة بالعاصمة، في عام 1956، سلسلة من الإضرابات تنديدا بالاعتقالات التي شنتها قوات الاحتلال في حق التجار والحرفيين الذين استجابوا لإضراب الثمانية أيام الذي نظمته جبهة التحرير. والجدير بالذكر أن أصداء هذا الإضراب امتدت إلى خارج الجزائر لتشمل فرنسا، حيث شن ما يزيد عن 350 ألف جزائري إضرابا عن العمل في باريس، فكان له صدى دولي أضيف إلى النجاح الذي حققه إضراب الثمانية أيام، والذي كذب ادعاءات الإدارة الاستعمارية التي كانت تقول إن الثورة يقودها مجموعة قطاع طرق لا يلقون الإجماع.. فإذا بالعالم يكتشف أن وراء الثورة شعب بأكمله يتوق إلى الحرية.