يرجع بنا المقال التالي إلى الأسباب التي دفعت خروتشيف إلى تأجيل زيارته إلى فرنسا بدعوى أنه أصيب بزكام، ومن بين تلك الأسباب عدم تمكين الزعيم السوفياتي من الإطلاع على أحوال الشعب الفرنسي ولكن "الكانار انشني" أرادت أن تقنع خروتشيف بأن رئيس الدولة الفرنسية نفسه لا يطمح إلى ما طمح إليه هو الأجنبي عن فرنسا. يقال أن الم.خ (أي خروتشيف) غضب لما اطلع على برنامج إقامته بفرنسا هذا البرنامج الذي سطرت خطوطه حكومتنا، فهو لا يجد فيه إلا الولائم والزيارات الرسمية بين صفوف متراصة من الشرطة والحرس الجمهوري وكذلك بعض الإتصالات التافهة بالسياسيين والموظفين السامين، وخلاصة القول أن البرنامج لا يترك أي فرصة للم.خ ليتصل فيها أو يكون بها فكرة عن فرنسا وشعبها. أما نحن فإننا نعتقد أن الم.خ ليس من حقه أن يستاء من هذا البرنامج ذلك أن رئيسنا لم يتحصل على حظ أوفر بالرغم من شجاعته الفائقة وقامته العالية. ولعل الفرق الوحيد بين الشخصيتين هو أن الم.خ شعر بالمسأل بينما لم يشعر ديغول أبدا بأنه بعيدا عن الشعب وعن واقع البلاد. وإذا لم تصدقوني فما عليكم إلا أن تتذكورا رحلته الأخيرة إلى الجزائر ماذا رأى وماذا علم من تنقلاته بين المراكز العسكرية و "كوجيناتها" وبين الجبال؟ أجل إنني أعرف أنه لو تقع هذه الأسطر تحت نظره فإنه يكتفي بتحريك كتفيه، ذلك أن الم ديغول مثله كمثل المستبدين الذين يحسبون أنفسهم أكثر الناس اطلاعا على الأشياء بينما هو لا يستمعون إلا ما يريدون أن يقال لهم، فهو لا يزور إلا الأماكن التي ترغب حاشيته في اطلاعه عليها وإذا كان ديغول يتخلي نفسه هارون الرشيد فإنه يرتكب خطأ فادحا، وعلى هذا الأساس يقال أن ديغول أعجب يتقدم التهدئة في منطقة واسعة زارها في الجزائر. ونظرا إلى أني متحقق من أنه لن يقرأ أبدا هذا الفصل وأنه لن يوجد شخص واحد يلفت انتباهه إليه فإنني سأخبركم أنتم بحقيقة تقدم التهدئة في هذه المنطقة. قررت القيادة العليا بالجزائر أن توجه ديغول إلى منطقة بوغار التي يحكمها الجنرال روا. والجدير بالكذر أن هذا الجنرال كان في 28 جانفي أي قبيل خطاب 29 ج انفي كان قد أمر بتنظيم مظاهرة كبرى فرنسية إسلامية لتشجيع المتمردين ورفع معنوياتهم، فأمر جميع الضباط الخاضعين له أن يجمعوا قدماء المحاربين والأهالي في ملعب بوغار، ومن أجل هذا أوصاهم باستخدام جميع الوسائل التي بين أيديهم ولكن من سوء الحظ فإن أوامر الجنرال روا لم يتمثل إليها الضباط ولم تنتظم المظاهرة المقررة وحينما وصل "مونجنرال" إلى هذه المنطقة كان من غير شك يجهل المسألة، وليس من شك أنه شكر الجنرال روا على نجاحه ووفائه لشخصه. وهكذا زار الجنرال ديول ناحية بوغار وانتقل منها إلى منطقة عزيز الجنوبية حيث سجل بغبطة واندهاش نجاح التهدئة منذ 3 سنوات، وقال حينئذ: "ليس هناك إذن ما يمنعنا من إجراء انتخابات هنا"، وقد أيده بطبعية الحال كل العسكريين الواقفين حوله. والواقع أن هؤلاء العسكريين نسوا بكل بساطة أن يعلموا "مونجنرال" بأن هذه المنطقة ظلت منذ حوالي 1956 منطقة يستريح فيها الثوار الذين يأتونها بعد أن يخلعوا أزياءهم العسكرية ويلبسوا ثياب الرعاة وحراس الأنعام ويختلطوا بالبدو الرحل الذين يقيمون هناك تحت الخيام، ونظرا إلى المنطقة مشهورة بمراعيها الجميلة فإن الثوار فضلوا أن تبقى هادئة وأن لا يجروا إليها معاركهم مع الجيش الفرنسي. وإذا كان "مونجنرال" قد غرته الظواهر بحيث آمن بفكرة الحل العسكري فإنكم من غير شك تخشون معي على عقله. ولكني نسبت أن أذكر لكم "مونجنرال" كان يطل على الحقيقة، ذلك أن شخصية إسلامية طلب منها أن تمثل الجزائريين عند استقبال الجنرال بمركز عزيز ولكن هذه الشخصية لم تخف للعسكريين ما تنوي أن تقوله للجنرال من حول حالة المنطقة ونشاط الثوار بها، ومنذ ذلك الحين أدرك المشرفون على الإستقبال خطورة الرجل واخفوه تماما عن أنظار الجنرال الذي بقي يعيش بأوهامه. وإذا كان رئيس الدولة على هذا النحو من الإطلاع على الحقائق فماذا نقول عن مجموعة المواطنين الفرنسيين. وإليكم مثالا آخر من بين مئات الأمثلة: عندما قررت الجبهة تعيين ابن بلة ورفاقه للتفاوض مع الجنرال ديغول في الخريف الماضي استقبل الفرنسيون ذلك على أنه استفزاز أو غلطة، ولكن لم يفكر أحد في إفهامنا بأنه يوجد عند الجزائريين فوق الحكومة وفق القيادات الثورية الداخلية يوجد أفراد يوصفون بحكماء الثورة، ونظرا إلى أن الحكومة لم تجد ما يكفيها من الوقت لجميع القادة العسكريين والسياسيين فإنها عتبرت من الأفضل أن تسارع إلى تعيين أحسن المفاوضين ا لجزائريين وهم ابن بلة ورفاقه. ونحن لا نتصور أن ديغول يجهل هذا التفصيل، وإذا كان يجعله حقا فإنكم تخشون معي على عقله! وهذا مقال آخر عن تزوير الأخبار ومخادعة الرأي العام في فرنسا، كلكم معتم شيئا من الضجيج الذي أحيطت به ترقية السيد بالحداد إلى منصب عامل عمالة باتنة وصفه أول عامل مسلم، فقد قيل لنا: هل تعترفون بأن ترقية الجزائريين ليست مجرد عبارة جوفاء إننا نعينهم في المسؤوليات العليا. ولكن الحقيقة التي اخفتها علينا السلطات ولا بد أنها أخفتها على ديغول أيضا هي أن بالحداد هذا كان "قايد" أي أنه كان واحد من أولئك الأشخاص الذين يبغضهم الجزائريون فوق كل شيء، ذلك أن أبغض نظام تسبب في قيام الثورة هو نظام "القيادة". أضف إلى ذلك أن السيد بالحدد كان قايدا في منطقة "الصومام" في الوقت الذي انعقد مؤتمر الصومام لقادة الثورة، وقد هرب في ذلك الوقت وطلب من الجيش حمايته، هذا الرجل بالذات يعين اليوم "عاملا" ويطلب من الجزائريين أن يحترموه ويحبوه... هذا هو الذكاء بعينه! وإليكم مثالا آخر عن الدعاية الفرنسية. منذ أن أعلن مشروع قسنطينة تركتز الدعاية الفرنسية حول المجهود الذي تبذله فرنسا لتعليم الأطفال الجزائريين، فهي تقول مثلا: "إننا شيدنا كذا من المدارس الجديدة وأن عدد الأطفال المتعلمين إرتفع بكذا وكذا" وبهذه المناسبة يجذر بنا أن أطلعكم على تقرير وضعته نقابة المعلمين بعنابة وقد جاء فيه:".. منذ جويلية 1959 توقفت جميع الأموال المخصص لبناء المدارس، فتعطلت كل الأشغال الجارية وتزايد التأخير الحاصل فيها من قبل، وقد كان دخول الأطفال للمكاتب صعبا جدا في أكتوبر 1959 وسيكون بدون شك أكثر صعوبة في أكتوبر القادم بحيث تفتحض جميع الدعايات الكاذبة والأرقام المزيفة". وهكذا يتضح أن كل ما سمعناه في هذا الموضوع غير صحيح وأنه دعاية جوفاء. إذا كنتم ترغبون في أمثلة أخرى فإن لي منها الكثير ولكني أخشى على جريدتي من صواعق القوانين الجديدة ضد حرية الصحافة. أما نتيجة هذا الدعاية وتغطية الحقائق فهي كما ترون استمرار الحرب.