إنه، حقا، شأن داخلي يعني السوريين وحدهم! ولكن يكفي أن نطلع على أسماء الدول الغربية والأنظمة العربية الراعية لما يسمى الربيع العربي، الداعمة للمعارضات الموجهة، المنصبة لفلول الردة عما أنجزه العقل العربي بجميع نزعاته الدينية نفسها والعلمانية منذ النهضه، لنعرف حجم الفداحة التي ستدفعها الشعوب العربية، مرة أخرى، للتخلص من تيار الأصولية الدينية المسيسة، التي تستولي على الحكم عن طريق انتخابات يديرها المال القذر، لتكون أنظمة بديلة أكثر شمولية وأشد طغيانا وأحكم تقييدا للحريات الفردية والجماعية. فلا محالة أن تكون النتائج المترتبة عن حكمها كارثية المشهد في النواحي الاجتماعية والثقافية والفكرية والفنية والتعليمية. فإن الدلائل الأولى المعبر عنها، في إعلانات النوايا عند قادة التيار الأصولي، تجهر، إعلاميا وطرحا، أنها ستهدم بناء الدولة الحديثة المكتسبة عن النهضة العربية وعن الاستقلالات، من أجل إقامة الخلافة. خلافة لا يخفى على أحد، لمعرفته الدولة العربية الأولى الراعية للأصولية، أين سيكون مقرها ومركزها، ومن ثمة، من سيكون خليفتها، الذي سيبايعه الرؤساء المنصبون في الربيع العربي على جماجم عشرات الآلاف من الضحايا، وعلى بساط بلون دم كل الشهداء الذين، منذ أكثر من نصف قرن، قضوا قتلا واغتيالا بأيدي الطغاة ومأموريهم أو تعفنوا في سجونهم بسبب معتقداتهم ومواقفهم من أجل بناء الدولة المدنية القائمة على القانون والحق والعدل. أحب أن أطرح المسألة على المثقفين العرب، خاصة! فمن حق أي معارضة الدفاع عن نفسها بالطرق المشروعة المكفولة دوليا ولو أن الشرعية لم تكن دائما خالية من الانحياز الإيديولوجي ولو أن الدولي أصبح خاضعا للقطبية الأحادية، مع مظاهر عودة لنوع من بداية التوازن يتجلى في المحنة السورية فرضته المصالح الإستراتيجية. ومن طبيعة أي نظام أن يحاول حماية وجوده بجميع الوسائل، لردع كل محاولة تستهدف الإطاحة به؛ بما يترتب على ذلك، في حال النزاع، من تداخلات كثيرة ومعقدة في تركيبة الجانبين البشرية وانتماءاتها وولاءاتها وطموحاتها؛ في غياب، محزن وموجع ومحبط، للنخب الفكرية والإعلامية والأدبية والفنية وللطلائع التنظيمية السياسية والنقابية. ولكننا، وهذا دليل على أن الربيع العربي هو الوجه الثاني للمأساة، لن نرى شعرا يمجد الفعل، ولا مسرحا يحتفي به، ولا رواية تعيد إنشاءه، ولا سينما تصوره. إنه فعل اللاحدث؛ لأنه إن كان قام في البداية على حق كما في التجربة التونسية فإنه بدءا، في التجربة التونسية نفسها، وقع الالتفاف عليه.بل سنقرأ الشعر الذي سيبكي الخيبة، ونشاهد المسرح الذي سيعيد مشهدة كذشبة القرن الكبرى، ونطالع رواية هي بدأت تظهر تغرق في التبكيت إن لم تكن في العدمية. ونشاهد أفلاما، تنتج خارج الديار، تصور ظلال الإحباطات كلها! الآداب والفلسفة والفنون والاجتماع، ستروح بعد وقت قريب، لا محالة، تبحث كلها عن الأبطال والفاعلين الحقيقيين من الشباب الغاضب الذي أشعل الفتيل؛ من غير أن يدري أن في كل زاوية من الطريق متربصين سرعان ما انقضوا على منجزاته، كما في مصر. طريق، كان يقتحمها بإدارته لوسائل الاتصال العنكبوتية بشكل غير مسبوق أو بصدره العاري، برغم متاريس الأنظمة كلها. ما آلت إليه تجربة ذلك الشباب، في تونس ومصر خاصة، دليل مفجع على قمة الانتهازية السياسية والوصولية الفكرية للتيارات الأصولية، المدفوعة دفعا من قوى مشكلة من أفظع ما يمكن أن يبلغه مسخ الطبيعة السياسية. أما اليمن فهو سعيد بجائزة نوبله وسط التمزق الدامي! أما ليبيا فتلك مسألة أخرى! إنها مقايضة وطن بأكمله: شرف شعبه وخيراته، بالوصول إلى السلطة بواسطة الدم دائما والمال القذر! وأما سوريا فإنها الجدارية التي ترسمها وتلونها بلون الدم، لا غيره، أيادي عرابي الربيع العربي في فضاء مفتوح على عارهم: حقدا وكراهية وشراسة وهمجية وبربرية. أسائل المثقفين العرب! هل فرنسا، ألمانيا، بريطانيا، وعلى رأسها كلها الولاياتالمتحدةالأمريكية، والإمارات والممالك العربية، ذات الأنظمة اللادستورية الأكثر انغلاقا عن الديمقراطية والأشد قمعا للحريات الفردية والجماعية، يشغلها فعلا شأن الإنسان السوري، الذي لابد للحقيقة من القول إنه عانى من ويلات الحكم الفردي ومن استبداد أجهزة نظام البعث؟ وبمقارنة هذا الإنسان السوري، في السياق، بالإنسان في تلك الإمارات والممالك وفي بعض دول الجوار، يتضح إلا للحاسرين أن السوريين، برغم أحادية النظام ومركزيته وما ترتب عنها من تجاوزات شتى، عاشوا دائما في وفاق اجتماعي بين مختلف طوائفهم ومذاهبهم؛ لأن الدولة، أقول الدولة، كانت هي الراعي الحامي لذلك من خلال النهج العلماني المعتمد. إذا، سوريا الدولة؟ لا! فإن كانت هناك أنظمة وجب أن يجتاحها ربيع عربي ويغيرها ويطرد حكامها فإنها الأنظمة الراعية له، قبل غيرها. الحبيب السائح كاتب روائي