صدر أخيرا للدكتور بوعلام بن حمودة الوزير والأمين العام الأسبق لجبهة التحرير الوطني كتابا بعنوان "الثورة الجزائرية.. ما ينبغي أن يعرف" (*). والكتاب بمثابة دليل للثورة الجزائرية، جمع المؤلف بين دفتيه معلومات هامة وجديدة من مصادر وطنية وأجنبية، وهو بذلك يفيد عامة القراء المتعطشين لمعرفة وقائع هذه الملحمة التاريخية، كما يفيد الباحثين وذوي الاهتمام الخاص الذين يجدون فيه وسيلة عمل لاغنى عنها. وقد تناولنا في الحلقة الماضية (1) بعض المعالم في حرب الذاكرة، فضلا عما يعرف بقضية ملوزة، ويتطرق في حلقه اليوم إلى فشل فرنسا عسكريا في حرب الجزائر، من خلال فشل الرهان على الاختيار العسكري الذي جربه الجنرال دوغول إلى أقصى حد قبل أن يجنح مضطرا إلى السلم والتفاوض، كما نتطرق إلى بعض القضايا الداخلية للثورة الجزائرية، مثل قضية النقيب الزبير بالولاية الخامسة، وقضية "الضباط الأحرار"، في الولاية الثالثة. ونكتشف بالمناسبة على ضوء هاتين القضيتين أن العدو كان يقف بالمرصاد لاستغلال أية ثغرة في الصفوف، في كل مرة لتعميق شقة الخلافات الطارئة طمعا في تحويلها إلى قطيعة نهائية. النصر.. كل لا يتجزأ تطرق الدكتور بن حمودة إلى الجانب العسكري في حرب الجزائر، من خلال إشارات مبثوثة عبر مختلف فصول الكتاب خلاصة هذه الإشارات أن فرنسا خرجت من حربها مهزومة عسكريا أيضا، مثلما هزمت سياسيا ودبلوماسيا. الفشل العسكري مرده عدم التمكن من فرض الحل العسكري للقضية الجزائرية، أي إخماد لهب الكفاح المسلح لجيش التحرير الوطني.. وقبول الرئيس دوغول التفاوض مضطرا في نهاية المطاف، تأكيد واضح لفشل الاختيار العسكري. بدأت الجنرال عهده كرئيس مجلس وزراء بصلاحيات رذيس دولة بمعاينة للوضع السائد في الجزائز، تبرهن على مدى قوة الثورة التي أوصلت دولا عظمى إلى تلك الحالة المأساوية التي تحدث عنها في خطاب 1 يونيو 1958 بعبارات مثل "الإعصار يضرب الجزائر"، "تردي الدولة"، "الوحدة الوطنية المهددة"، "عجز السلطات الذي انعكس سلبيا على مكانه فرنسا في الساحة الدولية، ويمكن أن يؤدي إلى حرب أهلية.. ورغم أن الجانب الفرنسي ظل يرفض اعتبار أحداث الجزائر، حربا ليكون في حل من الالتزام بقوانين الحرب ألا أنه لا يستطيع أن ينكر بأن هذه "الأحداث" استهلكت 8 قادة عامين لجيش الاحتلال، هم على التوالي: بول شوريير (أوت 54)، أنري لوريو (يونيو 55)، راوول صلان (نوفمبر 56)، موريس شال (ديسمبر 58)، كربيان (مارس 60)، ڤامبياز (فبراير 61)، أبليري (يونيو 61)، فوركي (أبريل 62). وأدخلت حرب الجزائر جيش الاحتلال في حيص بيص، مثل محاولة الجنرال ماسو إصدار نصوص تشريعية! والارتباك والارتجال الذي عاشته قيادة الجيش، بخصوص حبس أسرى جيش التحرير الوطني.. في 19 مارس 1958 أصدرت قيادة الجيش قرارا بإنشاء مراكز للمعتقلين العسكريين" ثم تفطنت أن ذلك يجعل منهم عمليا أسرى حرب، فراجعت التسمية بقرار 23 من نفس الشهر لتصبح هكذا: "المراكز العسكرية للمعتقلين"! ويشهد أحد غلاة جيش ااإحتلال العقيد الإرهابي أنطوان أرڤو، بأن جيش التحرير رغم امكانياته المتواضعة جدا كان سيد الميدان، إذ يعترف بصعوبة مطاردة وحداته التي يتمكن عناصرها من "الإفلات كالأشباح 9مرات على 10". ويقف الجنرال ايليري قائد منطقة عنابة قبل تولي القيادة العامة شاهدا على أمرين: 1 التزام الشعب مع الثورة: فقد نقل في هذا الصدد عن النقيب قائد مركز برحال (عين أم الرخاء سابقا) قوله "جميع هؤلاء الذين صفقوا لك هم من الفلاڤة (الثوار)! فمهما عملنا ما انفكوا يموّنون "الفلوز" (2) بالإيدوغ ويخبرونهم بتحركاتنا"! 2 اختراق جيش الاحتلال ومساعديه: يقول الجنرال ايليري بعد أن أصبح قائدا عاما لجيش الاحتلال: "أن أكثر المشاكل التي كانت تؤرقنا خلال شتاء 61 1962، تزايد عمليات فرار الجنود النظاميين وعناصر الحركى والدفاع الذاتي" ألا تشكل هذه الظاهرة علامة مميزة من علامات الهزيمة؟! وبخصوص القوات المساعدة لجيش الاحتلال من الجزائريين لم تكن تزيد عند ايقاف القتال على 70 ألفا مقسمة حسب الأسلاك التالية: الحركى: 42.100 الحرس المنقول: 8.500 أعوان المصالح الإدارية المتخصصة في الأرياف (صاص) والمدن (صو): 18.300 الدفاع الذاتي: 9.600 هذه الأرقام تفند تفنيدا قاطعا مزاعم الفرنسيين التي تذهب إلى تصفية 150 ألف حركي غداة استقلال الجزائر(*) وهو الرقم الذي اعتمده للأسف بن يمين سطورة في شريطه الوثائقي الذي بثته القناة الفرنسية الثالثة عشية الذكرى الخمسين للاستقلال.
تمرد ونهاية النقيب الزبير كان الطاهر حمايدية (3) الذي اشتهر لاحقا باسم النقيب الزبير ضابط صف بالجيش الفرنسي مطلع 1956، وكان ضمن وحدة من الطلائع الجزائرية في مركز الصبابنة ناحية الغزوات (تلمسان). في 19 فبراير من نفس السنة التحق بجيش التحرير الوطني بالناحية الثانية من المنطقة الخامسة (غرب البلاد) مع 52 من رفاقه عقب عملية فرار ناجحة، تمكنوا خلالها من القضاء على 16 جنديا فرنسيا، ونقل كمية من الأسلحة من بينها قطع ثقيلة. ونظرا لكفاءاته القيادية وتجربته القتالية، تسلق سلم المسؤولية بسرعة، ليصبح بعد حين ملازما أول عسكريا بالمنطقة السابعة (تيارت) التي كان على رأسها النقيب مختار بوعيزم آنذاك. لكن النائب العسكري مالبث أن اختلف مع مسؤوله المباشر، فنقل إلى المنطقة الأولى تلمسان التي تولى قيادتها ابتداء من فبراير 1958. بعد فترة اختلف أيضا مع قيادة الولاية، ممثلة آنذاك في العقيد لطفي (بن علي بودغن) ونائبه العسكري الرائد فراج (الأعوج الهذيلي)، هذا الاختلاف تطور مع مر الأيام ليصبح نوعا من التمرد الخفي المشفوع بتنظيم تجمعات للمجاهدين، لا يتحرج خلالها من انتقاد كبار المسؤولين بعنف. عن أسباب هذا الخلافات ينقل لنا الكاتب شهادة أرملة النقيب الزبير، المجاهدة ليلى الطيب الوزيرة السابقة والنائب بمجلس الأمة حاليا (عن الثلث الرئاسي)، وكان تزوجها بوجدة سنة 1959. مصدر الخلاف المجلس الوطني للثورة الجزائرية مطلع 1960 دخول معظم إطارات الحكومة والجيش التي يمكن الاستغناء عن خدماتها الدعائية والدبلوماسية والبحث عن الأسلحة... بالخارج. كان القرار يعني قائد المنطقة الأولى طبعا.. كما يعني وحدات المنطقة المرابطة على الشريط الحدودي المغربي.. غير أن النقيب الزبير اشترط دخوله بدخول كبار المسؤولين بدءا بأعضاء مجلس الولاية. علمت المخابرات الفرنسية بحركة قائد المنطقة الأولى، فأشارت لمصالح الحرب النفسية كي تستغلها، فبدأت تبث سمومها عبر العديد من المناشير لتغذية الخلاف.. كلفت الحكومة المؤقتة وزير الداخلية بن طبال للتحقيق في الأمر وتسوية الخلاف، لكن النقيب رفض الاستجابة لاستدعائه.. ثم ما لبث أن قرر اللجوء إلى السلطات المغربية طلبا لحمايتها. وتفسر المجاهدة ليلى الطيب قرار زوجها هذا بالعوامل التالية: 1 تجنب إراقة الدماء، بعد أن حاصر معسكره الجنرال الكتاني (من القوات الملكية) بطلب من الحكومة المؤقتة. 2 تجنب ضغوط الجيش الفرنسي الذي حاول استغلال الوضع، بتكرار نداءاته لاستسلام النقيب وجنوده. 3 أخذ مهلة قبل مواصلة المحادثات مع الحكومة المؤقتة. لم يكن موقف النقيب الزبير مقبولا طبعا لا من الحكومة المؤقتة، ولا من هيئة الأركان العامة لجيش التحرير بقيادة العقيد هواري بومدين التي كانت قد باشرت مهامها لتوها. في24 فبراير 1960 وقعت الحكومة مع السلطات المغربية اتفاقا، يقضي بتسليم النقيب المتمرد، مقابل تعهد بالحفاظ على حياته، ومع ذلك لم تنفذ الرباط هذا الإتفاق إلا في 2 أوت من نفس السنة. ونظرا لما تمثله هذه الحركة من سابقة خطيرة، لم يكن بوسع الحكومة الجزائرية أن تفي بتعهدها.. وهكذا أمرت قيادة الأركان بمحاكمته فور تسليمه، وعينت لذلك هيئة من: العقيد عثمان رئيسا للمحكمة عمر بن محجوب نائبا عاما محمد علاهم وعبد المجيد بن قدادرة مدافعين عن المتهم جرت المحاكمة بوجدة، وكان الحكم بالإعدام مع التنفيذ الفوري. وهكذا انتهت مغامرة النقيب الزبير، تاركا وراءه أرملة وبنتا.
(*) صدر عن دار النعمان للنشر والتوزيع، الجزائر 2012 (1) طالع "الفجر" عدد 22 أوت الجاري (2) يصف جيش الاحتلال الثوار بذلك من باب الاستحفاف والاحتقار، رغم أن من قواعد الحرب ألا تستهين بخصمك أبدا. (3) من ناحية تيارت (4) في انتظار أن يثبت جدارته، ويكسب احترام وقبول ضباط الولاية قبل ترسيمه.
قضية "الضباط الأحرار" بالولاية الثالثة عقد نحو 15 ضابطا من مختلف مناطق الولاية الثالثة (الصومام جرجرة) يتقدمهم علاوة زيوال ومحمد الصادق بن يحيى والصادق فرحاني.. . اجتماعا بغابة أكفادو يومي 14 و 15 سبتمبر 1959، أسفر عن القرار التالي: وقف محند أوالحاج وعبد الرحمان ميرة عن مهامهما! الأول باعتباره قائد الولاية بالنيابة، منذ استشهاد العقيد عميروش في مارس من نفس السنة. والثاني باعتباره مرشحا (4) من الحكومة المؤقتة لقيادة الولاية التي التحق بها في أبريل 1959 عائدا من تونس. من مبررات القرار آنف الذكر حسب هؤلاء الضباط: تنازع السلطة بين محند أوالحاج وميرة، التقصير في تسيير شؤون الولاية، التعسف، تخلي الحكومة المؤقتة عن الداخل.. وإلى جانب هذه المبررات يطالب "الضباط الأحرار" بتطبيق قرار أولوية الداخل على الخارج، ومراقبة مالية الولاية. وكلف بن يحيى بتبليغ الحكومة المؤقتة بنتائج الاجتماع بواسطة الولاية الثانية المجاورة ومصلحة الإشارة بها، لكن أثناء قيامه بالمهمة بلغه نبأ استشهاد ميرة في نوفمبر، وتثبيت محند أوالحاج قائد للولاية برتبة عقيد، هذه التطورات، جعلت الضباط الأحرار يعقدون اجتماعا ثانيا بأكفادوا في يناير 1960، كشف عن بداية اهتزاز المجموعة وتفككها، علما أن مجلس الولاية الجديد بقيادة محند أوالحاج بدأ بستعيد زمام الأمور بعد سلسلة من الاتصالات الهادفة إلى تجاوز عثرات الولاية وتعبئة قواتها من جديد في مواجهة العدو، وكانت المجموعة قد فقدت في أكتوبر أحد نشطائها، وهو الصادق فرحاني الذي أسر في أحد الاشتباكات. وبادر العقيد محند أوالحاج من جهته بمقابلة علاوة زيوال رفقة عدد من رفاقه، وتخلل المقابلة حوار صريح لم يخل من حدة من كلا الجانبين وكان العقيد قد كسب في يناير 1960 ولاء محمد سليماني من نشطاء المجموعة.. وبعد هذه المقابلة استأنف علاوة زيوال أيضا كفاحة بالمنطقة الثانية من الولاية، إلى أن وقع في الأسر جريحا في أحد الاشتباكات، ليبقى في السجن إلى حين ايقاف القتال في 19 مارس 1962. وشهد شهر مايو 1960 نهاية حركة "الضباط الأحرار" التي سممت أجواء الولاية الثالثة بعض الوقت، دون أن تؤثر مع ذلك في نشاط جيش التحرير الوطني. ويخبرنا النقيب "ليجي" أن المخابرات الفرنسية كانت تتابع حركة "الضباط الأحرار"، وأنه حاول شخصيا استغلال الخلاف بين قائد الولاية وهذه المجموعة من الضباط لتعميق شقته وتحويله إلى نقسام نهائي.. لكنه لم يفلح في ذلك، بفضل حنكة القائد أمغار!