غيب الموت، أمس، الرئيس الأسبق للجزائر المستقلة، الشاذلي بن جديد، بمستشفى عين النعجة العسكري، بعد صراع مرير مع المرض لسنوات طويلة، تاركا بصماته في تاريخ الجزائر المستقلة، أهمها وضعه لدستور الديمقراطية والانفتاح، الذي أخرج الجزائر من نفق الأحادية إلى عالم التعددية، وأسس لمناخ اقتصادي حر. شريفة ع / فاطمة. ح/ زهية م الرئيس الراحل من مواليد سنة 14 أفريل 1929، بقرية بوثلجة بولاية الطارف، ترأس الجزائر منذ سنة 1979 إلى غاية شهر جانفي 1992، وهو منصب تبوأه بعد مسيرة زاخرة بالنضال والإنجازات، حيث انضم بن جديد إلى الجيش الفرنسي كضابط غير مفوض وحارب في الهند الصينية. في بداية حرب الاستقلال، انضم بن جديد إلى جبهة التحرير الوطني ونتيجة لذلك، كوفئ بمنحة القيادة العسكرية لمنطقة وهران سنة 1964 بعد الاستقلال، ترقى في الرتب حتى أصبح عقيد في سنة 1969. تقلد الرئيس الشاذلي بن جديد، منصب وزير للدفاع سنة 1978، ساعده بعد وفاة الرئيس هواري بومدين سنة 1979 للوصول إلى قصر المرادية، الأمر الذي أحدث مفاجأة كبيرة وسط المتتبعين للشأن السياسي في الجزائر، خاصة وأن الانتباه كان مشدودا وقتها نحو إمكانية استخلاف الرئيس الحالي عبد العزيز بوتفليقة أو محمد الصالح يحياوي لبومدين، سيما وأن الشاذلي بن جديد كان يحسب على أنه تحرري موالي للغرب. وأهم ما ارتبط بفترة رئاسة الشاذلي بن جديد للجزائر، أنه كان قليل التدخل في شؤون الاقتصاد وقد تميزت فترة حكمه أيضا بتخفيف المراقبة الأمنية على المواطنين، مقارنة بفترة هواري بومدين للجزائر. وكان انهيار أسعار النفط في السوق الدولية مرافقا لتقهقر الشاذلي بن جديد، وبروز صراع بين المؤيدين له والمعارضين، حملت الشاذلي بن جديد وتحت الضغط الاقتصادي على فرض سياسة التقشف انتهت باندلاع احتجاجات شعبية في مختلف ربوع الوطن حملت اسم ثورة الخامس من أكتوبر سنة 1988، سالت فيها دماء الجزائريين بعد حدوث مواجهات بين الجيش والمواطنين، وخربت فيها المؤسسات العمومية وعمت فوضى عارمة في جميع أرجاء الوطن. ورغم الخسائر المادية والاقتصادية التي خلفتها أحداث الخامس من أكتوبر، لم يزحزح الشاذلي بن جديد، من منصبه وبقى ماسكا بزمام الرئاسة وحتى يفتح صفحة جديدة بعد تلك الآثار الجسيمة التي دفعها الشعب في ثورة الشارع، أفرج الرئيس الراحل عن سلسلة من الإصلاحات السياسية والاقتصادية ووعد بالانفتاح صدرت كتجسيد لخطابه الشهير في شكل دستور التعديدية والانفتاح سنة 1989. هذا الدستور الذي وضعه الشاذلي بن جديد، كان نقطة تحول كبيرة ومهمة في تاريخ الجزائر الحديثة، سمحت بظهور أحزاب سياسية عديدة وشكلت نقابات وحرر الاقتصاد الذي كان اشتراكيا في السابق، غير أن مسار الانفتاح والتغير وقف مع توقيف المسار الإنتخابي من طرف المؤسسة العسكرية سنة 1992، ما أدى إلى انزلاق الأوضاع ودخول الجزائر في مرحلة دامت عشرية كاملة من الدمار، المجازر والتقتيل، إلى غاية وصول الرئيس اليمين زروال، الذي وضع قانون الرحمة عمقت أكثر بعد وصول الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، إلى سدة الحكم من خلال إصدار قانونين الأول الوئام المدني والثاني ميثاق السلم والمصالحة الوطني، الذي أنهى بشكل كبير تلك المراحل السوداء وأعاد للجزائر صورتها المشرقة. ”عندما وقع الاختيار بين الكرسي والضمير.. اختار الضمير” ارتبط اسم ثالث رئيس في تاريخ الجزائر المستقلة، الشاذلي بن جديد، بأحداث 5 أكتوبر 1988 التي فتحت باب التعديدية على مصراعيه في دولة ظل يحكمها الحزب الواحد باسم الشرعية الثورية، ليدفع بعدها الثمن كرسي تربع على عرشه طويلا بعد توقيف المسار الانتخابي، الذي بوأ الإسلاميين سدة الحكم، ليعتزل بيته بأقصى الشرق الجزائري ليرحل عن الدنيا بعد رحيل رفيق دربه في السلاح الرئيس بن بلة، الذي رافقه إلى مثواه الأخير قبل أشهر معدودات. مازال الجزائريون، بمن فيهم الجيل الجديد يتذكرون خطاب الرئيس بن جديد بعد الأحداث التي عرفها الشارع خريف 1988، والتي خرج فيها الجزائريون يطالبون بإرساء العدالة الاجتماعية قبل أن يقدم سنة 1989 على إقرار دستور فيفري، الذي تصمن إطلاق حريات سياسية، إعلامية واقتصادية غير مسبوقة في تاريخ البلاد، قبل أن يقرر الرحيل عن الحكم بعد توقيف المسار الإنتخابي، في رسالة واضحة، ”عندما وقع الاختيار بين الكرسي والضمير.. اخترت الضمير”. وعرف عن الفقيد قلة خرجاته الإعلامية قبل رحيله عن سدة الحكم، عندما اضطر إلى توضيح أمور تتعلق بالثورة وبولايته الطارف ”ليس من عادتي الرد على ما يكتب حولي وحول فترة حكمي في الصحافة الوطنية، فقد آليت على نفسي التزام الصمت، ليس هروبا من قول الحقيقة، وإنما شرفي كمجاهد وحسّي بالمسؤولية كرجل دولة يمنعاني من الخوض في قضايا حساسة تتخذ، للأسف الشديد، عندنا في غالب الأحيان طابع النقاش العقيم، المهاترات السخيفة، تصفية الحسابات والتجريح. سجّل ابن مدينة الطارف آخر ظهور له إلى جانب الرئيس عبد العزيز بوتفليقة والرئيس التونسي المؤقت المنصف المرزوقي، في جنازة الرئيس أحمد بن بلة، أثناء مراسيم الدفن بمقبرة العاليا. ... أول من فتح الباب لاستوزار النساء ومما سيذكره التاريخ للرئيس الراحل الشاذلي بن جديد، أنه أول رئيس كانت له شجاعة فتح الباب للعنصر النسوي للاستوزار، بتعيين السيدة زهور ونيسي وزيرة للشؤون الاجتماعية عام 1982 ثم وزيرة للحماية الاجتماعية في 1984، ويكون بذلك الرئيس الشاذلي حسب شهادة زهور ونيسي في مذكراتها أنه أول مسؤول يملك شجاعة تغيير الذهنية الاجتماعية فيما يخص علاقة النساء بالسياسة. وقد أكدت زهور ونيسي، أمس في اتصال مع ”الفجر”، أن الرئيس الشاذلي من موقعه كمجاهد كان يقدر نضال المرأة الجزائرية ودورها في حرب التحرير، ولهذا أعادها لموقعها الذي تستحقه كجزء من المجتمع. وفي سياق شهادتها عن الراحل قالت ونيسي إن الشاذلي كان شخصا متواضعا ومجاهدا كبيرا وكان مؤمنا بما كان يقوم به والكثير مما نسب إليه كان من قبيل الإشاعات. لهذا حرصت هي على تقديم الصورة الحقيقية للرئيس الذي اشتغلت معه في ثلاث عهدات وزارية قضتها ونيسي في كل من الحماية الاجتماعية (1982-1984) والتربية الوطنية 1986 بسرد الكثير من الضغوطات التي تعرض لها خاصة فيما يتعلق بتعريب المدرسة والنهج المتبع في تسيير الدولة. 24 سنة بعد الانتفاضة التي غيرت الشارع بالجزائر 5 أكتوبر.. قدر وطن ورجل هل كانت أحداث 1988 انتقاما من التوجه الجديد لبن جديد؟ شاءت الأقدار أن يرحل الرئيس الأسبق، الشاذلي بن جديد، في الذكرى 24 لأحداث 5 أكتوبر 1988، التي هزت الشارع الجزائري. وفي الوقت الذي تزال الكثير من الحقائق المتعلقة بتلك الفترة لم تكشف بعد، بما في ذلك طبيعة تلك الأحداث وهل كانت ”ثورة”، ”انتفاضة” أم ”شغب أطفال”؟ وهل كانت عفوية أم بفعل فاعل؟ الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد، وفي حوار كان قد أجراه عام 2007 مع باحثين يابانيين، أصدرته منشورات صوفيا للدراسات الآسيوية وكانت العديد من وسائل الإعلام الوطنية والدولية قد تناولته على نطاق واسع، أعطى رأيه في أحداث الخامس من أكتوبر1988، حيث اعتبر - في الحوار المذكور - أن الإصلاحات التي باشرها كانت أحد أهم الأسباب التي فجرت الأحداث، متهما من خلال اللقاء العديد من الفاعلين في جهاز جبهة التحرير بكونهم ضد الديمقراطية التي حاول تطبيقها، بما فيها حرية الإعلام وفتح المجال السياسي، ومتهما شخصيات نافذة في دوائر الجبهة والحكم أيضا بالخوف من فقدان الامتيازات وبإجباره على التخلي عن مشروع الإصلاح الذي تبناه. وفي ذات الحوار اعترف بن جديد أيضا بأنه تبنى الاتجاه الرأسمالي عوضا عن النظام الاشتراكي، معترفا أن الطريقة التي تم بها تطبيق الاشتراكية في الجزائر فشلت ”أنا غيرت النظام من خلال قناعتي الشخصية، لأني عشت جميع المراحل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية للنظام السياسي الجزائري كمسؤول. وعلى هذا الأساس فقد تحملت المسؤولية بشكل كامل. وعندما أدركت أن النظام الاشتراكي في ذلك الوقت غير قادر على المضي قدما في تحقيق الإصلاحات المطلوبة، قررت التغيير”. وقد كشف الشاذلي في حواره أن أجهزة الأمن أخبرته بأن الجبهة تحرض على التصويت ضد الدستور انتقاما من الإصلاحات التي كانت ستجردهم من مصالحهم الشخصية، حتى أن هناك من طلب منه إعادة الاستفتاء، لكنه رفض وأصر على أن يمضي قدما نحو الانفتاح. الشاذلي اعترف أيضا بأن الشعب صوّت لصالح جبهة الإنقاذ انتقاما من جبهة التحرير، وأن النظام أخطأ في تعامله مع نتائج الانتخابات التشريعية في 1991 وكان عليه أن يقبل بقواعد اللعبة التي أفرزت الاسمين ويمنح الشعب الجزائري فرصة الاختيار الحر. وها هو تاريخ 5 أكتوبر يعود من جديد ليرتبط باسم الشاذلي بن جديد كقدر محتوم، قبل أن يكشف عن كواليس هذا التاريخ في مذكراته التي لم تنشر بعد. زهية منصر مذكرات الشاذلي وسؤال مصداقية النشر بعد الوفاة! مع رحيل الرئيس الشاذلي بن جديد، الذي وافته المنية، أمس، يعود الحديث عن مصداقية المذكرات التي كتبها الرجل منذ سنوات، ومنعت من الصدور منذ أشهر على خلفية عدد من التصريحات الخطيرة التي جاءت بها هذه المذكرات وكانت عبارة عن تصفية حسابات مع الراحل أحمد بن بلة، والجنرال المتقاعد خالد نزار. على الرغم من أن المذكرات في صورتها الحالية والتي تتواجد عند منشورات ”القصبة” بالعاصمة، تكاد تكون خالية من أي معلومات قيمة ستفيد القراء والسياسيين ممن انتظروا هذه المذكرات للإطلاع على تاريخ الجزائر من خلال هذا الرئيس الذي كان شاهدا على أبرز أحداث السياسية والاجتماعية التي مست البلد، إلا أن الناشر رفض إصدارها حتى الفاتح من نوفمبر المقبل حسب ما صرح به القائمون على دار ل ”الفجر”. وسيكون خروجها اليوم إلى العلن بلا معنى لأن المذكرات التي شهدت وهو على قيد الحياة العديد من العواصف التي جعلته يعيد النظر في بعض مما جاء فيها، خاصة فيما يتعلق بعلاقة بوزير الدفاع الأسبق خالد نزار، وجعلت الرقابة تمارس عليه ودفعت به لأن يعيد النظر في بعض ما جاء في مذكراته، مفضلا خيانة ذاكرته بحذف بعض المقاطع الهامة التي جاءت بها المذكرات في صيغتها الأولى حتى يسمح لها بالخروج إلى النور، خاصة وأن بن جديد اختبر الأطراف التي رفضت صدورها في بادئ الأمر، من خلال إصرارها على عدم خروج المذكرات في الطبعة السابقة من معرض الجزائر الدولي للكتاب، على الرغم من أنها كانت جاهزة حسب ما أكدته مصادرنا من داخل بيت الناشر إسماعيل أمزيان مدير منشورات ”القصبة”، التي ستشرف على طباعة العمل، الذي سيصدر في نسختيه العربية والفرنسية. حياة سرتاح شخصيات دولية لتوديعه 3 أيام حداد على روح الشاذلي وجنازة رسمية بمربع الشهداء سيشيع اليوم، في جنازة رسمية، جثمان رئيس الجمهورية الأسبق الشاذلي بن جديد في مربع الشهداء بمقبرة العالية. موازاة مع ذلك أعلنت السلطات منذ أمس، حدادا وطنيا لمدة ثلاثة أيام، ترحما على روح ثالث رئيس للجمهورية الجزائرية بعد الاستقلال وذلك مباشرة بعد إعلان مصالح رئاسة الجمهورية نبأ وفاة الرئيس بن جديد. ويعتبر الرئيس الشاذلي بن جديد الذي دخل في دوامة المرض منذ شهور، ثالث رئيس للجمهورية يودع الحياة بعدما فقدت الجزائر رئيسها الأول أحمد بن بلة منذ شهور وأعلن على إثر ذلك حداد لمدة 9 أيام. ومن المزمع أن تفتح السلطات بيت عزاء للرئيس بن جديد بقصر الشعب، كما جرى مع المرحوم بن بلة، لإلقاء نظرة الوداع من طرف رفقائه وأصدقائه في الكفاح المسلح ضد المستعمر الفرنسي، إلى جانب رفقائه في المؤسسة العسكرية الذي ينتمي إليها والوفود الأجنبية وكذا مختلف فئات الشعب الجزائري، خاصة وأنه تقلد مراسيم السلطة لمدة 13 عاما. ويرتقب أن تحل اليوم بالجزائر شخصيات كبرى دولية وإقليمية للمشاركة في مراسيم دفن الرئيس الجزائري الراحل.