كان خروج الشاذلي بن جديد من قصر المرادية مفاجئا مثلما كان دخوله إليه مفاجئا، رغم أن الظروف التي أحاطت بالحدثين كانت مختلفة تماما، فاختياره ليكون خليفة الرئيس الراحل هواري بومدين جانب كل التوقعات، وخروجه في خطاب للأمة لإعلان عن استقالته - أو إقالته- في 11 جانفي 1992 كان هو الآخر بمثابة القنبلة المدوّية التي دفعت الجزائر ثمنها غاليا بسنوات من الدم والدمار. وبعيدا عن سجال التعيين والإبعاد، يمكن اختصار الفترة التي تولى فيها الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد زمام تسيير شؤون البلاد بأنها كانت حافلة بالمتناقضات والمفارقات والإنجازات أيضا، فقد استطاع أن يواجه مختلف التحديات من 1979 وصولا إلى 1992، بحكمة العسكري المحنك والسياسي المتمرّس رغم الهزّات التي تعرّض لها. ومن دون الخوض في تفاصيل ما له وما عليه فإن الثابت أن الرئيس الراحل لم يكن محظوظا طيلة 13 عاما من رئاسة الجمهورية رغم أنه استلم إرثا حافلا بالإنجازات من سلفه هواري بومدين. كانت الجبهة الاجتماعية أكبر تحدّ وقف في وجه بن جديد، وغالبا ما ارتبطت بشكل مباشر مع الحراك السياسي الذي عرفته البلاد خاصة مع أحداث الربيع القبائلي أو ما يسمى ب »الربيع الأمازيغي« في بداية ثمانينيات القرن الماضي، وهو ما أعقب الجدل الذي صاحب اختيار وزير الدفاع الأسبق ليكون في مقام القاضي الأول في البلاد، في إطار استمرارية حكم العسكر آنذاك، لكن تلك الظروف كانت بمثابة الأرضية التي أوصلت بن جديد إلى قناعة ضرورة فتح الحقل السياسي وتحريره من سطوة »الحزب الواحد«. وقد عرف عن الرجل شجاعته وجرأته في مواجهة الأحداث خاصة تلك التي عرفتها الجزائر منذ 1986 إثر الانهيار المفاجئ لأسعار البترول وما نتج عنه من تداعيات على الصعيد الاجتماعي بعد تبني الدولة سياسة التقشف، حيث لم يتوان في مخاطبة الجزائريين بصراحته المعهودة بعد سلسلة من الاحتجاجات والاضطرابات التي كانت المدن الكبرى مسرحا لها، وصولا إلى أحداث 5 أكتوبر 1988 التي كانت نتائجها سقوط قتلى في شوارع العاصمة. وتعليقا منه على القرارات السياسية التي اتخذها بعد خطابه الشهير في 10 أكتوبر 1988 اعترف بن جديد بأنه كان في صراع مع ضميره »نظرا للنتائج التي سوف تصدر من كل الإجراءات والقرارات.. لكن ما بيدي حيلة لقد وضعتُ مصلحة البلاد قبل كل شيء، ووضعت الجانب العاطفي في جهة حفاظا على المصلحة الوطنية والدولة الجزائرية..«، وقال بصريح العبارة: »كنتُ متأثرا جدا بعد الخطاب وتجاوب المواطن وثقته فيّ مما زادني ثقلا وعبئا كبيرا نظرا لهذه الثقة الكبرى..«. كانت أحداث 5 أكتوبر 1988 التي شاءت الأقدار أن يرحل الشاذلي بن جديد في ذكراها الرابعة والعشرين، بمثابة نقطة تحوّل في مساره السياسي وفي مسار البلاد، فالمسيرات التي كانت تطالب بالانفتاح وتحسين الوضع المعيشي تحوّلت بعد العاشر أكتوبر إلى مسيرات تأييد لرئيس الجمهورية حينذاك، وكانت من ثمراتها اعتماد أول دستور تعدّدي في البلاد منحت بن جديد لقب »أب الديمقراطية في الجزائر« باستحقاق. يعترف الرئيس الشاذلي بن جديد في هذا السياق تعليقا منه على أحداث أكتوبر »كنتُ أتألم ليلا ونهارا ولذلك اتخذت قرارا لحماية الدولة الجزائرية وليس لحماية نظام الحكم«، والواقع أن الإصلاحات التي شرع فيها كانت في 1986 لكن منح فيها الأولية للإصلاحات الاقتصادية لما لها علاقة مباشرة بالحياة اليومية للجزائريين على حدّ تعبيره، في حين تمّ إدراج الإصلاحات السياسية الضرورية لعرضها على المؤتمر السادس لحزب جبهة التحرير الوطني. ومثلما انتقلت الجزائر من عهد الاشتراكية إلى اقتصاد السوق بعد زيارة الشاذلي التاريخية إلى فرنسا، جاء التحوّل العميق في دستور 1989 الذي أنهى عهد الحزب الواحد وفتح الباب على مصراعيه أمام عشرات الأحزاب السياسية، وقد استشار الجزائريين في هذه العملية التي حظيت بتزكية 85 بالمائة من الناخبين، ليليها التطبيق الميداني للإصلاحات رغم بطئها نظرا لظروف تلك المرحلة وصعوبة تغيير الذهنيات. ويُحسب للرئيس الشاذلي بن جديد أنه واجه التحدّيات بشجاعة ورغم أنه كان حريصا كل الحرص على الانتقال بالبلاد من ديمقراطية الواجهة إلى ديمقراطية حقيقية تحترم فيها خيارات الشعب، إلا أن الظروف التي واكبت نهاية حكمه لم تسعفه لتحقيق ما كان يصبو إليه فخرج من أضيق الأبواب بعد أن اختار أن ينسحب بهدوء تاركا وراءه الكثير من علامات الاستفهام، لكن إلى اليوم لا يزال يُذكر الرجل بكل خير في انتظار ما ستحمله مذكراته من مفاجآت وأجوبة عن استفهامات عمرها عقود.